عبر تطبيق
قد تبدو المقارنة بين الحالتين المصرية والصومالية فى مواجهة الإرهاب غير متكافئة من عدة نواح، أولها طبيعة الأرض والنظام السياسى السائد، وكذلك التشابكات الدولية ذات التأثير على نوعية وكم الجماعات الإرهابية التى واجهت البلدين.
لكن من زاوية أخرى، فإن الأصول والمرجعيات الأساسية لتلك الجماعات سواء فى مصر أو القرن الإفريقى ومن بينها الصومال أو فى غيرهما تكاد تتفق فى مجموعة من الأصول التى تجعل تلك المقارنة أمرًا ممكنًا، وبالتالى يكون من الممكن تكرار تجربة مصر الناجحة فى مواجهة الإرهاب فى مناطق أخرى من العالم مع الأخذ فى الاعتبار طبيعة الأرض ومصادر الإمداد البشرية أو المادية لتلك الجماعات.
لا يمكن التعامل مع الجماعات الإسلامية فى الصومال بمعزل عن محيطها العربى والإسلامي، فجميع هذه الجماعات تعود مرجعياتها الأساسية إلى ما قبل عام ١٩٧٩، فى ذلك الحدث التاريخى والمفصلي، الذى كان إيذانًا بميلاد تلك الصورة العنيفة من الجماعات المتطرفة، التى نشأت بعد إعلان الجهاد العالمى فى أفغانستان خلال حربها مع الاتحاد السوفييتي، والتى شارك فيها الكثير من الشباب المسلمين فى مختلف دول العالم الإسلامى وكان من بينهم المصريون والصوماليون والسوريون والعراقيون والجزائريون وغيرهم.
مثلت تلك الحقبة «الثمانينيات والتسعينيات» مع الظروف السياسية التى مر بها الصومال- كغيره من الدول العربية والإسلامية- فى تلك الآونة الحاضنة الفكرية التى تلقفت العائدين من أفغانستان، والمتأثرين بتنظيم القاعدة الذى نشأ فى أفغانستان وبعد سقوط الاتحاد السوفييتى والذى انتشر بقوة فى البلاد الإسلامية، فظهرت الحركة الإسلامية الجهادية فى الصومال، وكان على رأس تلك الكيانات، الاتحاد الإسلامى الذى دعا إلى حمل السلاح ضد السلطة خلال فترة الثمانينيات وبعد سقوط نظام سياد برى عام ١٩٩١ ظهرت عناصر أكثر تشددًا وخطورة كشفتها وثائق سرية سربتها جهات تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، أكدت أن حركة الاتحاد الإسلامى أقامت شبكة من العلاقات والاتصالات الواسعة مع تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن، وقد استولت الحركة وقتها على بعض المناطق فى إقليم «غدو» جنوب الصومال فى الفترة بين عامى ١٩٩٢ و١٩٩٦ وأعلنت تلك المنطقة ولاية إسلامية، وبدأت معسكرات تنظيم القاعدة تظهر علنا فيها.
كانت تلك الموجة الأولى من الجماعات الإرهابية التى بنيت عليها الهياكل والأعمدة الرئيسية للكيانات المسلحة الكبيرة التى نشرت الإرهاب فى الأراضى الصومالية المنقسمة، إلى أن جاءت الموجة التالية لتكون أكثر عنفًا من سابقتها مع ما يسمى بثورات الربيع العربى لتتطور تلك الجماعات وتأخذ أشكالًا أكثر حدة وعنفًا.
فقد ظهرت حركة الشباب المجاهدين الذى انفصل عن اتحاد المحاكم الإسلامية، وأعلنت سعيها لإقامة دولة إسلامية، ثم أعلنت ولاءها لتنظيم القاعدة عام ٢٠١٢، وشنّت حربا ضد الحكومة الصومالية وحلفائها فى الداخل والخارج.
ويعود تأسيس حركة الشباب الصومالية إلى عام ٢٠٠٤، لكن أول ظهور علنى لاسم «حركة الشباب المجاهدين» كان فى عام ٢٠٠٦، وظلت الحركة تعبر عن نفسها بأنها الجناح العسكرى لاتحاد المحاكم الإسلامية بقيادة مختار أبو الزبير الذى كان يشغل منصب الأمين العام للمكتب التنفيذى لاتحاد المحاكم الإسلامية.
وبعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش»، انفصل مجموعة من حركة شباب المجاهدين بعد مجموعة من الانشقاقات التى وقعت داخل الحركة بعد مقتل زعيمها أحمد عبدى غودانى فى غارة أمريكية فى سبتمبر ٢٠١٤م. إلى أن تمكن عبد القادر مؤمن أحد قيادات الحركة إعلان انشقاقه ومبايعة أبى بكر البغدادى زعيم تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش» فى أكتوبر ٢٠١٥م ليظهر التنظيم على يديه ويكون أول زعيم لولاية الصومال.
لم يكن ذلك الحدث ليمر بسهولة على الحركة التى دخلت فى صراعات دامية مع تنظيم داعش الذى فرض سيطرته على الكثير من المناطق فى الصومال.
روابط مع مصر
وبعد سقوط جماعة الإخوان فى مصر كان الصومال إحدى المحطات التى فر إليها الهاربون من جماعة الإخوان والجماعات الإرهابية من بينهم عبدالرحمن الشواف، وعزب مصطفى، وعزت صبرى، وأمير بسام، وعز الدين الكومى، إضافة إلى قيادات الصف الثانى والشباب خاصة من الجناح المسلح للجماعة من حركتى حسم ولواء الثورة.
التجربة المصرية مع الإرهاب
كما شهدت تلك الفترة «الثمانينات والتسعينات» تدفق عناصر مشبعة بفكر تنظيم قاعدة الجهاد فى أفغانستان والذى يعد النواة الأولى لتنظيم القاعدة على جميع البلاد العربية والإسلامية التى شارك الكثير من أبنائها فى الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفييتى فى تلك الحقبة التاريخية شديدة الخصوصية.
تحول هؤلاء العائدون جميعا فيما بعد إلى قنابل موقوتة ضد بلادهم فكما حدث فى الصومال حدثت صورة شبيهة له فى مصر، فقد تشكلت الموجة الأولى من تلك الجماعات المتطرفة التى حملت السلاح ضد الدولة وكانت مرجعياتها الأولى تنظيم القاعدة.
ففى نهاية عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات ظهرت جماعتا الجهاد والجماعة الإسلامية والتى كان قوامها عدد من كوادر جماعة الإخوان الذين سافروا للجهاد فى أفغانستان ضد الحكومة الموالية للروس وكذا القوات السوفييتة المحتلة.
فى نهاية عهد الرئيس الراحل أنور السادات لجماعتى «الجهاد والجماعة الإسلامية» وقيادات وكوادر تنظيم الإخوان بالسفر إلى هناك للقتال إلى جانب المقاتلين الأفغان فى حربهم على الحكومة الموالية لروسيا، فقد نشط هؤلاء فى تنفيذ عمليات إرهابية ضد الدولة فى مصر طبقوا خلالها الخبرات التى اكتسبوها خلال وجودهم فى أفغانستان والتى تمثلت فى العديد من المهارات منها الاغتيال وحرب العصابات. وظلت هذه الموجة فى مصر خلال فترة التسعينات إلا أن القبضة الأمنية المصرية كانت أقوى من استمرار هذه الصورة إلى الآن، فسرعان ما سيطرت الدولة عليها من خلال المواجهات الأمنية والفكرية، وبدأت حركة المراجعات فى السجون إلى أن أعلن العديد منهم توبته وانخرط فى الحياة الاجتماعية المصرية بعد ذلك.
ثم جاءت الموجة الثانية من العنف بعد أحداث يناير ٢٠١١م بعد تنحى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، بعدها نهضت الخلايا النائمة لتلك الجماعات مرة أخرى واعلنت عن وجودها بشدة خاصة خلال الفترة التى وصلت فيها جماعة الإخوان إلى السلطة، لتنشط بعد ذلك فى العديد من المناطق متخذة ثلاثة أشكال:
الأول: كيانات مسلحة تابعة للجناح العسكرى لجماعة الإخوان
وظهر ذلك فى محافظات الوادى خاصة محافظة القاهرة كحركة حسم ولواء الثورة. ونفذت تلك الكيانات العديد من العمليات الإرهابية منها حادث اتوبيس حلوان عام ٢٠١٤م، وكذلك استهداف المرافق الحيوية خاصة أكشاك الكهرباء.
الثاني: الروافد الفكرية لتلك الحركات والجماعات
وتمثلت فى العديد من المنصات والمنابر الدعوية التى انتشرت فى العديد من المحافظات والتى لم يكن نشاطها محصورا فقط فى نطاق الدعوة بل كانت أيضا تعمل فى جمع الموارد المالية للجماعات الاخوان والجماعات والحركات الإرهابية المتصلة بها سواء فى داخل المحافظات والقاهرة أو فى شبه جزيرة سيناء، وكانت تعمل تحت غطاء العمل الخيرى والتطوعي.
الثالث: الجماعات المسلحة فى سيناء
وتمثلت فى العديد من عناصر الجماعات المسلحة الموالية لتنظيم القاعدة كجماعة المرابطين، ثم تنظيم داعش، التى تسربت إلى مصر خلال الفترة من يناير ٢٠١١م إلى يونيه ٢٠١٣م وقت سقوط جماعة الإخوان فى مصر.
ولعل هناك تشابه فى طبيعة التكوين الأيديولوجى والفكرى الذى نشأت عليها الجماعات المسلحة فى كل من مصر والصومال وغيرهما من الدول العربية والإسلامية، والملاحظ أن هناك موجتين من العنف قادتهما تلك الجماعات التى لا تزال تعيث فسادًا فى الصومال، وقد تمكنت مصر من القضاء على هاتين الموجتين بعد صراع طويل وتجربة يمكن تكرارها فى الصومال وغيرها.
جهود مصر فى محاربة الإرهاب:
وضعت مصر إستراتيجية أمنية للتعامل مع ذلك المثلث الخطير الذى ظهر مع الموجة الثانية من العنف، وفى غضون سنوات قليلة أعلنت القضاء التام عليه، على عدة مستويات كان آخرها العملية الشاملة سيناء ٢٠١٨م
أسقطت الدولة إمبراطورية التنظيم السرى لجماعة الإخوان والذى عاد للظهور خلال فترة حكم الجماعة، وانطلق ينفذ أعماله العدائية ضد الدولة بعد سقوط الاخوانى محمد مرسى فى ٣٠ يونيه، ووجهت الدولة ضربة قاتلة لقلب التنظيم بعد استهداف قيادات الجناح المسلح للجماعة وزعيمه محمد كمال فى منطقة المعراج بالمعادي، بعد تورطهم فى العديد من الجرائم الإرهابية التى شهدتها البلاد منها التخطيط لاغتيال النائب العام الأسبق المستشار هشام بركات وعدد من القيادات الأمنية وضباط الجيش والشرطة.
إغلاق ومحاصرة الروافد الفكرية والمادية والبشرية التى تدعم الجماعة ومحاصرتها فى جميع مراكزها بالقاهرة والمحافظات، وكان أول قرار اتخذته الدولة بعد ٣٠ يونيه مباشرة إغلاق جميع القنوات الفضائية الناطقة باسم الإخوان وداعميها فى مصر، ثم مراجعة جميع الجمعيات الخيرية التابعة للجماعة فى المحافظات وتجميد عدد كبير منها.
إطلاق العملية الشاملة سيناء ٢٠١٨م، وقد تمكنت الدولة فى فترة وجيزة من السيطرة على كامل تراب شبه جزيرة سيناء والتى أعلنها تنظيم داعش واحدة من أكبر ثلاث ولايات تابعة له خارج مركزه الأساسى فى سوريا والعراق، كما تمكنت أيضًا من السيطرة على الجماعات الإرهابية الأخرى الموالية لتنظيم القاعدة والتى كانت تنافس داعش فى سيناء وفى المناطق الحدودية.
وفى يناير ٢٠٢٣ أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى أن مصر أصبحت خالية من الإرهاب وقال فى كلمة بهذه المناسبة: «لقد نجحنا بنسبة كبير جدا فى إنهائه، وقال: الثمن كان كبيرا»، مشيرا إلى «شهداء ومصابين سالت دماءهم هناك، ويجب أن نتذكرهم فى كل وقت، وعيب علينا أن ننسى الفضل والكرم الذى عاملوا به بلدهم حتى نستطيع أن نقول الآن بعد عشر سنوات أنه ليس هناك إرهاب فى مصر».
٣ محاور
المحور الأول: المواجهة المسلحة وحرب العصابات فى المناطق السكنية والصحراوية المتمثلة فى شبه جزيرة سيناء وفى الصحراء الغربية والمناطق الحدودية.
المحور الثاني: المواجهة الفكرية، والتى تمثلت فى تجفيف المنابع الأيديولوجية لتلك الجماعات إضافة إلى تخصيص منابر ومنصات لشيوخ المؤسسات الدينية الرسمية لتفنيد شبهات الجماعات المتطرفة.
المحور الثالث: وهو المحور الاقتصادي، وتمكنت فيه الدولة من تجميد العديد من المؤسسات الاقتصادية والجمعيات الخيرية التى تعد اهم الروافد الاقتصادية لتمويل تلك الجماعات وتغذيتها كذلك بالعناصر البشرية خاصة جماعة الإخوان المسلمين.
وبالتالى فقد امتلكت مصر خبرة واسعة فى التعامل مع الجماعات المسلحة على مختلف الأراضى الصحراوية والبيئة الزراعية وفى المناطق السكنية وهو ما يؤهلها لنقل تلك الخبرات لمناطق أخرى من العالم تنشط فيها تلك الجماعات مثل الصومال. وفى الوقت نفسه أصبح لديها خبرة طويلة فى المواجهات الفكرية مع قيادات تلك الجماعات خاصة فى جانب المراجعات الفكرية.
التعاون المصرى الصومالي
لم يكن التعاون المصرى الصومالى فى المجال الأمنى وليد الأسابيع الماضية، بل يتمد إلى ما هو ابعد من ذلك خاصة فى مجال مكافحة الإرهاب وجماعات العنف سواء بشكل مباشر من خلال قوات حفظ السلام فى افريقيا، وفى الأسبوع الأول من أغسطس الماضى وقعت مصر بروتوكول تعاون عسكرى مع الصومال بين كل من الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى ونظيره الصومالى حسن شيخ محمود خلال زيارته للقاهرة.
وجاءت توقيع ذلك البروتوكول فى ظل ظروف سياسية وأمنية خطيرة تشهدها الصومال ومنطقة القرن الإفريقى تأكيدا لموقف مصر الداعم لوحدة وسيادة الصومال على أراضيه، والرافض لأى تدخل فى شئونه الداخلية، ومواصلة العمل على إرساء الأمن والاستقرار فى منطقة القرن الإفريقي.
ورغم أن البرتوكول له أبعاد سياسية إلا أن العامل الأمنى يظل هو الأساس الذى انبنى عليه، وبطبيعة الحال فإن الإرهاب والجماعات المتطرفة المنتشرة فى الصومال تمثل عقبة اساسية أمام استقرار ووحدة الصومال وبالتالى فإن القضاء على تلك الجماعات يعتبر من الأمور التى ليس من السهل التغاضى عنها فى ظل الأجواء الأمنية والسياسية المضطربة والمتشابكة فى تلك المنطقة.
ورغم أنه ليس هناك بنود واضحة فى البروتكول العسكرى والأمنى إلا أن القضاء على الجماعات الإرهابية والمسلحة يمثل ضرورة ملحة فى هذا الوقت من أجل تحقيق الاستقرار التام فى الصومال، ولا شك أن مصر تؤكد أهمية القضاء على الإرهاب والتطرف فى الصومال والعالم كعامل أساسى من عوامل التنمية والاستقرار، لأن وجود العنف فى هذه المنطقة الحساسة بالنسبة للأمن القومى المصرى والعربى يمثل تهديدا للجميع.
ومن هنا فإن التجربة المصرية فى محاربة الإرهاب يمكن نقلها إلى الصومال، نظرًا لوجود مجموعة من العوامل:
أولا: تشابه المرجعيات الفكرية والأيديولوجية بين الجماعات العنف فى الصومال ومصر، بل إن جذورهما تعتبر واحدة.
ثانيًا: نجاح التجربة المصرية فى القضاء على الإرهاب والتطرف فى كل مستوياته. نتيجة الخبرات المصرية فى التعامل مع حرب العصابات التى تشبه الاستراتيجيات التى تتعامل بها الجماعات المسلحة فى الصومال.
ثالثًا: امتلاك مصر الإمكانيات البشرية والفكرية التى تؤهلها لنقل تجربة المراجعات للجماعات الإسلامية فى الصومال، خاصة من خلال المؤسسات الرسمية الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف الذى يمثل قبلة لطلاب الصومال المهتمين بدراسة العلوم الشرعية والذين يمثلون سفراء لبلادهم فى الأزهر وحين يعودون إلى الصومال يكونون محملين بما يؤهلهم لممارسة هذا الدور المهم.
نتابع معا الان اخبار