يتابع الدكتور محمد الشيخ فى كتاب “فيروز.. وسوسيولوجيا الإبداع عند الرحبانية 1960 – 1980” والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بقوله: إن أثر الجدة على الرحبانية على المستوى التأثير الثقافي والفكري والفني يتمثل في عدة قيم ترسخت بداخلهم مثل: الصراعات في العقل الباطن والتفريغ الانفعالي والانسجام بين العقل الباطن والأنا والتخيل وأحلام اليقظة التي كانت تصاحبهم من جراء انعكاس علاقتهم بجدتهم ومن خلال الحكايات والقصص التي كانت تروى لهم وكان لها تأثير مهم على عملية الإبداع، وكان ناتج ذلك أن أصبح لديهم قدرات هائلة على الإبداع مثل: الإبداع التعبيري في طرائق الغناء والموسيقى، والإبداع الفني، والإبداع المتجدد، والإبداع الخلاق.
أما فيروز فقد تأثرت بزيارتها الصيفية الدائمة التي كانت تقضيها عند جدتها التي كانت تعيش في ضيعة “الدبية”، حيث تعلمت منها الحكايات العديدة المختلفة، التي ساهمت في توسيع خيالها وأرست عندها حب محاكاة الطفل، وتعتبر جدتها عاملًا مهمًا في تشكيل وجدانها الفني أيضًا، وتأثرت بها كثيرًا.
وما يزال الحنين، يراود نهاد “فيروز” إلى تلك الأيام التي كانت تستلقي فيها، فى حضن جدتها، لتداعب بيديها الحنونتين شعرها، وتقص لها من حكاياتها الجميلة، التي كانت تمثل لها نهرا يفيض بالقيم، وكانت جدتها تهمس لها بالحكاية وتجسدها بطبقة صوتية منخفضة ناعمة لقربها منها لخلق حالة من التركيز واسترسال الجدة كما كان يحلو لها، وإلى جانب ذلك تراث كبير من أغاني الأطفال من داخل الحواديت ومن خارجها ومن المأثور الشعبي اللبناني لأغنية الطفل، وهذه الحالة نقلت إلى صوت فيروز عند أداء أغاني الأطفال من “طبقة متوسطة” طبقة الصوت المسماة بـ”الألطو” وبنفس الطريقة في نعومة السرد الذي استلهمته من جدتها.
إن البيئة الدينية في المدرسة والكنيسة قد أثرت في تشكيل وتكوين فكر فيروز الديني وحملتها كثيرا من التعاليم وحفظ كثير من التراث الديني في صور ترانيم ومزامير وتعاليم وصلاة، فأصبح قلبها خاشعا مؤمنا بالفطرة وبالتعلم الشرطي، قد تحقق لها سوسيولوجية الإبداع الصوتي، فقد تعلمت حرفة الترتيل ودربت صوتها أن يخرج من منطقة معينة تعكس أداء وحسًا دينيًا وتلون الكلمات بشكل متمكن من حيث النطق بالألفاظ السليمة والتشكيل اللفظي واللحني، مضافًا إلى ذلك دراستها لعلم تجويد القرآن الذي فتح أمامها المجال للتأكد من تقنياته التي تؤكد على: “التحسين”، و”الإحكام”، و”الإتقان”، في كيفية إخراج كل حرف من حروف القرآن من مخرجه دون تغيير وقراءته قراءة صحيحة وفق قواعد التجويد التي وضعها علماء التجويد. ويقال هو: إعطاء كل حرف حقه ومستحقه من المخارج والصفات. وتجويد القرآن الكريم، إتقان تلاوته، وتحسين نطق حروفه، بالتلقي والمشافهة، والاستفادة من تقنيات القراءة مثل: الإظهار، الإضغام، والتنوين.
كان انعكاس كل من الموسيقى والدين ضرورة، وذلك لأنهم تشبعوا من الغناء الكنسي والمصاحبة من خلال آلات موسيقية مسيحية استخدمت في الكنيسة منذ سنين، وفي الأغاني الدينية نجد معطيات من الديانات التوحيدية، مثل الحج والقربان والتطهير والغفران، وكذلك إبراز فكرة الحج التي تظهر عندها جلية، خاصة في “زهرة المدائن”، حيث عين فيروز ونظرها يتجهان نحو القدس، مدينة الصلاة وملتقى ديانات سماوية. وفى القدس، عيونها: “تدور في أروقة المعابد تعانق الكنائس القديمة”، “عيوننا إليك ترحل كل يوم تدور في أروقة المعابد تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد” وللقربان أيضًا مكانته في الأغنية، فهو الخبز المقدس الذي يقرب على مائدة الرب المقدسة: “المحبة تطحنكم فتجعلكم كالثلج أنقياء ثم تعدكم لنارها المقدسة لكي تصيروا خبزًا مقدسًا يُقرب على مائدة الرب المقدسة” وفى المحبة تقول: التطهير يظهر في أغنية “زهرة المدائن”: “وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية” وفى أغنية “جسر العودة”: “وبصمت وصفاء ينطلق الأردن يزرع في الأدواء موسمه القدسي”، حيث مياه الأردن القدسية ترمز إلى المعمودية التي لها فعالية نحو الخطايا والتطهير الكامل.
وفيروز التي تعيدنا إلى جو الصلاة بعد أن نكون قد غرقنا في هموم الحياة، لا بل تعيدنا إلى بيت الصلاة، إلى مدينة الصلاة، وتخلق لنا جوًا روحيًا، تحملنا على الدخول فيه وعلى الانسجام مع جوه القدسي، في هذه، هل تكون إلا رسولة صلاة؟ إلا “ملاكًا حارسًا” يرافقنا طوال النهار ليذكرنا بالقيم السماوية وبالحياة المثلى، بلطف ونعومة همسة. فهي تغنى كلمتها وترحل، وتعرف ما للأغنية من وقع في النفوس، هل تكون فيروز، والحالة هذه إلا كما قال فيها سعيد عقل وبعده النقاد الفنيون والصحفيون في أكثر من مناسبة: “إنها سفيرتنا إلى النجوم.. سفيرتنا إلى السماء، وسفيرة السماء إلينا”.
وللحديث بقية