يظل القرآن الكريم ينبوعًا لا ينضب من الحكمة والمعرفة، تتجدد دلالاته مع كل عصر، وتتمعن فيه الأفهام بمستوياتها المتباينة، وبينما اكتفى البعض بفهم ظاهره واستنباط أحكامه التشريعية، مضى آخرون فى رحلة أعمق، يبحثون عن المعانى الباطنية والإشارات الروحية الكامنة بين حروفه، وهنا بزغ التفسير الصوفي، الذى لم يكن مجرد محاولة لفهم النص، بل سعيًا للاتحاد الروحي بين القارئ والمقدس، ولقد ظهر هذا المنهج مع أوائل المتصوفة الذين رأوا فى القرآن نهجًا للتزكية الروحية والترقّى الإيماني، وقد أثار هذا النهج جدلًا واسعًا بين التأييد والتحفّظ، فهذا لا يعنى إنكار أثره العميق فى إثراء الفكر الإسلامي؛ لذلك نحاول فى هذه المقالة، أن نستعرض أشهر مفسرى القرآن من المتصوفة، ونغوص فى أعماق مناهجهم، ونحلل بموضوعية خصائص هذا اللون الفريد من التفسير.
فى غمرة التفاعل الفكرى والثقافى الذى شهده القرن الثالث الهجري، وتلاقى المدارس الكلامية والفلسفية، بزغ التفسير الصوفى وجهةً روحيةً فريدةً، ولم يكن هذا المنهج مجرد تفسير للنص القرآني، بل كان تعبيرًا عن تجربةٍ روحيةٍ عميقةٍ، تسعى إلى كشف المعاني الباطنية التى تتجاوز حدود الظاهر، فلقد بدأ المتصوفة رحلتهم مع القرآن الكريم بتأويل آياته بما يعكس أحوالهم الروحية ومقاماتهم السلوكية، مؤكدين على أن القرآن الكريم ليس مجرد كلمات تُتلى، بل هو خطابٌ مباشرٌ للقلوب قبل العقول، ولقد رأوا فى القرآن الكريم نورًا يهدى إلى الحقائق الروحية، ومرآةً تعكس أسرارَ الوجود.
مع مرور الوقت، تطور المنهج الصوفى وتنوعت مدارسه، مما أثرى التراث التفسيري الإسلامي، فقد ظهرت مدارس صوفية مختلفة، لكل منها رؤيتها الخاصة ومنهجها المتميز فى فهم كلام الله، وقد ساهم هذا التنوع فى إضفاء عمقٍ وثراءٍ على التفسير الصوفي، وجعله من أهم روافد الفكر الإسلامي، وفى خضم هذا التوجه المتزايد نحو الروحانية والمعانى الباطنية، تبرز الحاجة الماسة إلى دراسة التفسير الصوفي للقرآن الكريم كسبيل لفهم أبعاده الروحية العميقة، فالتفسير الصوفى لا يقتصر على ظاهر النص، بل يتجاوزه إلى استكشاف أسرار الروح وإشراقات القلب، مما يساهم فى تحقيق توازن دقيق بين الباطن والظاهر، والحفاظ على الأسس الظاهرة للنص مع استكشاف آفاقه الروحية.
وتعد هذه المقالة دعوة للتأمل العميق فى معانى القرآن الكريم، وفهم التجربة الصوفية بروح منفتحة ومتزنة، تسعى إلى استكشاف هذا البعد الروحى للقرآن الكريم، الذى يضيء لنا دروب المعرفة الإلهية، ويقودنا إلى فهم أعمق لأنفسنا وعلاقتنا بخالقنا، ولقد شهد الفكر الإسلامى ظهورَ نخبة من المفسرين المتصوفة، الذين تركوا إرثًا عظيمًا فى مجال التأويل الباطنى للقرآن الكريم، ويُعد سهل التسترى (توفى عام ٢٨٣هـ) من أوائل الذين اعتمدوا الرمزية الروحية فى تفسير القرآن، مما فتح الباب أمام فهم أعمق للنصوص المقدسة، أما الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى (توفى عام ٦٣٨هـ)، فقد مزج بين الفلسفة الصوفية والتأويل القرآني، ليقدم رؤيةً شموليةً فريدةً تجمع بين ظاهر النص وباطنه، وتسعى إلى كشف الأبعاد الخفية للكلمات الإلهية، لم يقتصر دور هؤلاء الأعلام على تفسير القرآن الكريم، بل تعداه إلى قيادة رحلة روحية عميقة نحو فهم أعمق وأشمل للوجود، تجمع بين العقل والقلب، وبين الظاهر والباطن، لذلك سوف نستعرض بعض النماذج لمفسري الصوفية.

سهل التستري.. رائد التأويلات الرمزية
يُعتبر سهل التستري أحدَ أعمدةِ التفسير الصوفي، الذين أضاءوا دروبَ الفهم الروحى للقرآن الكريم، فلم يكتفَ التستري بالمعانى الظاهرة للآيات، بل غاص فى أعماقها ليكشف عن كنوزِ الحكمة والمعرفة، حيث قدم لنا فى "تفسير التستري" لقوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء: ٨٠)، رؤية ًفريدةً للمرض والشفاء. فالمرض، فى نظره، ليس مجرد علة جسدية، بل هو انحراف عن المسار الصحيح للروح، وابتعاد عن الإخلاص لله. أما الشفاء، فهو لا يقتصر على زوال الأعراض الجسدية، بل يتحقق بعودة العبد إلى ربه وتوحيده الخالص، وذهب التستري إلى أبعد من ذلك فى تأويله لأفعال العبد، فرأى أن "الإماتة" تعنى الغفلة عن الله، وأن "الإحياء" هو الذكر المستمر له. وهكذا، يحول التستري الأفعالَ الجسديةَ إلى رموزٍ روحيةٍ عميقة، تكشف عن العلاقة الوثيقة بين العبد وربه، ونلاحظ فى تفسير التستري بعدًا روحيًا يتجاوز الفهم الظاهري للقرآن، وينبض بتجربة صوفية عميقة. إنه يسلط الضوء على الأبعاد الخفية للآيات، ويفتح آفاقًا جديدةً للفهم الروحى للقرآن الكريم.

عبد الكريم القشيري.. الصدق جوهر الإيمان ومنبع الكمال
يُعتبر تفسير القشيري(ت. ٤٦٥هـ) تحفةً فنيةً فى عالم التفسير الإشاري الصوفي، الذى جمع بين عمقِ الروحانية ودقةِ اللغة، حيث إنه لا يكتفي بالمعاني الظاهرة للآيات، بل تجاوزها إلى استكشاف الأبعاد الخفية والإشارات الروحية التى تكمن وراء الكلمات، فى تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: ١١٩) فى كتابه "لطائف الإشارات"، قدَّم القشيرى تعريفًا فريدًا للصدق. فالصدق، فى نظره، ليس مجردَ قولٍ باللسان، بل هو صدقٌ مع الله فى النية والعمل، وتطابقٌ بين الظاهر والباطن، وانسجامٌ بين القول والفعل، ويعتبر القشيرى الصدقَ أساسَ الطريق الروحى للسالكين. فالصادق هو الذى يسعى إلى تحقيق الإخلاص فى عبادته، ويجاهد نفسه للوصول إلى مقام القرب من الله. إنه الذى يلتزم بأوامر الله، ويجتنب نواهيه، ويحرص على أن يكون ظاهره كباطنه، يُظهر هذا التأويلُ للقشيرى فهمًا عميقًا للأبعاد الأخلاقية والروحية للإيمان؛ فالإيمان، فى نظره، ليس مجردَ اعتقادٍ بالقلب، بل هو عملٌ بالجوارح، والتزامٌ بالأخلاق الفاضلة، والصدق هو جوهر هذا الالتزام، وهو أساسُ كلِّ عملٍ صالح. وهكذا، يقدم لنا القشيرى تفسيرًا فريدًا للآية الكريمة، يجمع بين المعنى اللغوى والإشارة الروحية، ويبرز أهمية الصدق فى حياة المؤمن.

فريد الدين العطار.. شاعر الروحانية
يُعتبر فريد الدين العطار(ت. ٦١٨هـ) ذلك الشاعر المتصوف الذى عاش فى القرن الثانى عشر الميلادي، علامة بارزة فى سماء الأدب الفارسى والتصوف الإسلامي، وقد ترك إرثًا عظيمًا من الأعمال الأدبية التى تنبض بالروحانية والعشق الإلهي. وفى تفسيره لآيات القرآن الكريم، اعتمد العطار على الرمزية الصوفية العميقة، التى تكشف عن الأبعاد الروحية للنصوص، ففى كتابة "منطق الطير"، قدَّم العطار رؤيةً فريدةً فى تفسيره لقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات: ٥٠)، فهو لا يرى فى هذا الفرار هروبًا جسديًا من مكان إلى مكان، بل هو هروب من الأنا والشهوات، ومن كل ما يشغل القلب عن الله. إنه فرارٌ من عالم الدنيا الفانية إلى الحضرة الإلهية، حيث السكينة والطمأنينة، ويرى العطار أن هذا الفرار يتطلب تزكية النفس وتطهيرها من الأخلاق الرذيلة، وتحرير الروح من العوائق الدنيوية التى تمنعها من الوصول إلى مقام القرب من الله. إنه سلوك روحى يقوم على مجاهدة النفس، وكبح جماح الشهوات، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، ويعكس هذا التأويل فلسفة العطار الصوفية، التى تقوم على السلوك الروحي والتحرر من الأهواء. فالصوفي، فى نظره، هو الذى يسعى إلى تطهير قلبه وتزكية روحه، حتى يصبح مرآةً صافية تعكس نور الله. وهو الذى يفر من كل ما يشغله عن الله، ويلجأ إليه وحده، ليجد فيه السعادة الأبدية.

ابن عربي.. شيخ العرفان الروحي
يُعتبر محيى الدين بن عربي(ت. ٦٣٨هـ) الملقب بالشيخ الأكبر، قمة شامخة فى الفكر الصوفى الفلسفي؛ فقد ترك بصمةً لا تمحى فى عالم الروحانية والمعرفة الإلهية. وقد اعتمد ابن عربى على العرفان الروحى ليقدم لنا رؤيةً فريدةً للوجود والإله. ففى تأويله لقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: ١١٥)، طرح ابن عربى تفسيرًا عميقًا يكشف عن تجلى الحق فى كل مكان. فهو يؤكد أن الله تعالى ليس محدودًا بجهةٍ أو مكان، بل هو موجود فى كل مكان، لأن الوجود كله هو تجلٍ من تجليات الإله الواحد. ويرى ابن عربى أن الآية الكريمة لا تشير فقط إلى وجود الله فى كل مكان، بل تشير إلى أن الإنسان يمكنه أن يرى وجه الله فى كل شيء، إذا صفا قلبه وتطهرت روحه. فوجه الله، فى نظر ابن عربي، هو مظهر جماله وجلاله، وهو يتجلى فى كل شيء، ولكن الإنسان يحتاج إلى بصيرةٍ نافذةٍ لكى يرى هذا التجلي، ويعكس هذا التأويل رؤية ابن عربى العميقة لوحدة الوجود، حيث يتجلى الإله فى كل شيء دون حلول أو اتحاد. فالله تعالى ليس جزءًا من الكون، ولا يحده الكون، بل هو خالق الكون ومبدعه، وهو الذى يحيط به علمًا وقدرةً، وقد أثارت آراء ابن عربى جدلًا واسعًا فى الأوساط الدينية والفكرية، ولكنها فى الوقت نفسه ألهمت الكثيرين من المتصوفة والعارفين، الذين وجدوا فيها تعبيرًا عن تجربتهم الروحية العميقة.

شمس الدين التبريزي.. نفخة الروح الإلهية تكشف سرّ الإنسان
يُعتبر شمس الدين التبريزى (ت. ٦٤٥هـ) المُعلم الروحي لجلال الدين الرومي، نقطة فارقة فى عالم التصوف، فلقد تميزت تأويلاته للقرآن الكريم بالعمق الروحى والتأملات الفلسفية، فى تفسيره لقوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (ص: ٧٢)، رأى التبريزى أن هذه النفخة الإلهية هى سرّ الألوهية فيه، وهى التى تمنحه القدرة على الشهود والمعرفة الإلهية، ويرى التبريزى أن هذه النفخة هى التى تميز الإنسان عن سائر المخلوقات، وهى التى تجعله خليفة الله فى الأرض، والمُعدّ لاستقبال الأنوار الإلهية. فالإنسان، بهذه النفخة، يحمل فى داخله سرّ الألوهية، وهو قادر على أن يصل إلى مقام القرب من الله، إذا سعى لذلك وجاهد نفسه، ويعكس هذا الفهم رؤية التبريزى لمقام الإنسان، حيث يعتبره كائنًا عظيمًا، خُلقَ لغايةٍ سامية، وهى معرفة الله وعبادته، فالإنسان ليس مجرد جسد مادي، بل هو روحٌ نفخت فيه من روح الله، وهو قادر على أن يرتقى بنفسه حتى يصل إلى أعلى مراتب الكمال، وقد عبر التبريزي عن هذه المعانى فى أقواله وأشعاره، التى تفيض بالروحانية والعشق الإلهي، وإحدى مقولاته "الإنسان هو مرآة تجلى الحق، فإذا صفا القلب انعكس فيه نور الحق"، وهكذا، يقدم لنا التبريزى تفسيرًا عميقًا للآية الكريمة، يكشف عن سرّ الألوهية فى الإنسان، ويذكرنا بأهمية تطهير القلب وتزكية النفس للوصول إلى مقام القرب الإلهي.

جلال الدين الرومي.. شاعر العشق الإلهى
يُعتبر جلال الدين الرومى (ت. ٦٧٢هـ) ذلك الشاعر المتصوف الذى أضاء سماءَ الأدب الفارسى والروحانية الإسلامية، صرحا عظيما فى عالم العشق الصوفي، وقد تجلت روحانيته العميقة فى تفسيره لبعض الآيات القرآنية، حيث رأى فيها إشارات إلى الفيض الإلهى والمحبة الإلهية، وفى تفسيره لقوله تعالى: {كُن فَيَكُونُ} (البقرة: ١١٧)، قدَّم الرومى رؤيةً لهذه الآية الكريمة تفيد بأنه لا يرى فى "كن" مجرد أمر تكوينى يصدر من الله، بل يرى فيها تعبيرًا عن الفيض الإلهى الذى يتدفق على الكون، فيُخرج الموجودات من العدم إلى الوجود، ويرى الرومى أن هذا الفيض الإلهى هو انعكاس لشمولية القدرة والمحبة الإلهية، فالله تعالى، بقدرته التى لا يحدها حد، ومحبته التى وسعت كل شيء، هو الذى يخلق كل شيء، ويحيى كل شيء، ويرزق كل شيء، ويعكس هذا الفهم تصوره العميق للتجليات الإلهية فى الكون، فالكون، فى نظر الرومي، ليس مجرد مجموعة من الكائنات الجامدة، بل هو مظهر من مظاهر الجمال الإلهي، وهو مرآة تعكس أنوار الحق.

سمات التفسير الصوفي
ومن هذا العرض لبعض رموز المتصوفة نجد أن التفسير الصوفى للقرآن الكريم يتميز بخصائص فريدة تُميِّزه عن سائر المناهج التأويلية، وتُضفى عليه طابعًا خاصًا يستند إلى التجربة الروحية والمعرفة الباطنية، ويمكن إجمال أبرز هذه الخصائص فى الآتي:
التأويل الرمزي: يعتمد التفسير الصوفى على استخدام الرموز والإشارات الروحية لفهم المعانى الباطنية للآيات القرآنية، متجاوزًا بذلك حدود الألفاظ الظاهرة، فالكلمات والعبارات القرآنية لا تُفهم بمعناها الحرفى المباشر، بل هى رموز تشير إلى حقائق أعمق وأبعادٍ روحيةٍ لا يدركها إلا من صفت بصيرته وتذوق حلاوة التجربة الصوفية.
التجربة الصوفية: يرتكز هذا المنهج على الإلهام والكشف الروحى الذى يتحقق للمتصوف من خلال الزهد والتأمل ومجاهدة النفس. فالمفسر الصوفى لا يعتمد على العقل وحده فى فهم القرآن، بل يسعى إلى تطهير قلبه وتزكية روحه حتى يصبح مؤهلًا لتلقى المعارف الإلهية والكشوفات الربانية.
البعد الأخلاقى والروحي: يهدف التفسير الصوفى إلى تحقيق غاية أسمى من مجرد فهم معانى القرآن، ألا وهى تزكية النفس والارتقاء الروحي، فهو يسعى إلى تهذيب سلوك الفرد وتوجيهه نحو الأخلاق الفاضلة، ويحثه على السعى للوصول إلى مقام القرب الإلهي.
الشمولية: يسعى التفسير الصوفى إلى تقديم رؤية شاملة للقرآن الكريم، لا تقتصر على المعانى الظاهرة للألفاظ، بل تتجاوزها إلى استكشاف الأبعاد الباطنية والإشارات الروحية التى تكمن وراءها، فهو يرى فى القرآن الكريم كتابًا مفتوحًا على جميع مستويات الفهم، وكل قارئ ينهل منه بقدر صفاء قلبه وسعة مداركه.
الذوق: يعتمد التفسير الصوفى على الذوق الروحي، وهو قدرة خاصة يمنحها الله للمتصوف، تمكنه من تذوق المعانى الروحية للقرآن الكريم، والتى لا يمكن للعقل وحده أن يصل إليها، فالذوق الصوفى هو بمثابة حاسة باطنية تكشف عن أسرار الوحى الإلهي.
وفى الختام نرى أن التفسير الصوفى قد أضاف بُعدًا روحانيًا عميقًا للفهم القرآني، ولم يكتفِ المتصوفة بقراءة النصوص الدينية قراءة ظاهرية، بل سعوا إلى استكشاف المعانى الباطنية التى تتجاوز حدود الحرف والكلمة، فبالنسبة لهم، كان القرآن بحرًا من الأسرار الإلهية، ومفتاحًا لفهم العلاقة الروحية بين الإنسان وخالقه، ولذلك، اعتبروا أن كل آية تحمل دلالات رمزية وإشارات روحية لا تُدرَك إلا عبر رحلة السالك فى طريق الزهد والتأمل والمجاهدة الروحية، ومن خلال هذا المنهج، عبّر التفسير الصوفى عن رحلة السالكين نحو الله، تلك الرحلة التى تهدف إلى الفناء فى الذات الإلهية والوصول إلى (المعرفة الذوقية)، فالتأويل الصوفى لم يكن مجرد اجتهاد فكري، بل كان تجربةً روحيةً تعكس أحوال القلوب ومقامات النفوس، مما أضفى على الفهم القرآنى أبعادًا جديدةً من الروحانية والعمق الوجداني.
ومع ذلك، أثار هذا المنهج جدلًا كبيرًا بين العلماء والمفكرين؛ فبينما رأى فيه المؤيدون سموًا روحانيًا وتأملًا فلسفيًا يعمق التجربة الإيمانية، تحفظ الآخرون على تأويلاته الرمزية، معتبرين أنها قد تبتعد عن المعنى الظاهرى للنصوص، وهذا الجدل يعكس التحدى الكبير الذى واجهه التفسير الصوفى فى الحفاظ على التوازن بين الحرية الروحية والالتزام بالنصوص الظاهرة، ورغم هذا الجدل، يبقى أثر التفسير الصوفى حاضرًا وبقوة فى الفكر الإسلامي، فقد ساهم فى إغناء التراث التفسيرى بمفاهيم ومصطلحات فلسفية وروحانية، كما أثر فى الأدب والشعر الإسلامي، مُشكلًا تيارًا فكريًا وروحانيًا لا يمكن تجاهله، إن دراسة هذا النوع من التفسير لا تعمّق فهمنا للقرآن فحسب، بل تدعونا للتأمل فى معانيه الخفية بروحانية وتدبر، مما يفتح آفاقًا جديدةً للتجربة الإيمانية، ويعزز الوعى الروحى والفلسفى لدى القارئ المعاصر.
*جهاد التهامي
مترجمة ومعيدة بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة سوهاج
