بحور العشق الإلهى .. ابن عربى والتصوف الفلسفى.. من الزهد إلى وحدة الوجود - خليج نيوز

بحور العشق الإلهى .. ابن عربى والتصوف الفلسفى.. من الزهد إلى وحدة الوجود

الجمعة 21 مارس 2025

رئيس مجلسى الإدارة والتحرير

عبدالرحيم علي

رئيس التحرير

داليا عبدالرحيم

ads

رئيس مجلسي الإدارة والتحرير

عبدالرحيم علي

رئيس التحرير

داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

الجمعة 21/مارس/2025 - 09:40 م
ابن عربي
ابن عربي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news


يعد الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (ت. ٦٣٨هـ) من أبرز أعلام التصوف الإسلامي، حيث جمع بين التجربة الروحية العميقة والتأمل الفلسفي، ما جعله شخصية استثنائية في تاريخ الفكر الإسلامي. 
وُلد ابن عربي في الأندلس، حيث تأثر بالبيئة العلمية والدينية المزدهرة آنذاك. في شبابه، بدأ طريقه الروحي كزاهدٍ تقليدي، ملتزمًا بممارسة العبادات وتهذيب النفس وفق ما كان شائعًا بين المتصوفة الأوائل. غير أن تجربته الصوفية لم تتوقف عند حدود الزهد، بل تطورت إلى مفهوم الفناء في الله، حيث كان يرى أن على الإنسان أن يتخلص من ذاته المحدودة ليصل إلى الحقيقة الإلهية المطلقة (ابن عربي، الفتوحات المكية، ج١، ص٢٢٠).
تأثر بابن مسرة والسهروردي وأبي مدين الغوث، لكنه سرعان ما تميز بمفاهيمه الخاصة التي تجاوزت التصوف الأخلاقي إلى تصوف فلسفي يعتمد على رؤى عميقة في ماهية الوجود والعلاقة بين الله والعالم.
بدأ مسيرته الروحية في إطار الزهد التقليدي، متأثرًا بتيار التصوف العملي الذي كان منتشرًا في الأندلس والمغرب في عصره، والذي يقوم على المجاهدة والتقشف كطريق للوصول إلى الله (الفتوحات المكية، ابن عربي).
إلا أنه لم يلبث أن تجاوز هذا النمط التقليدي، متجهًا نحو تصوف معرفي أكثر تعقيدًا، يقوم على كشف الحقائق الإلهية من خلال التجربة الذوقية، وهو ما ميّز مدرسته لاحقًا.
وشهدت رحلة ابن عربي الفكرية تحولات جوهرية جعلته من رواد التصوف الفلسفي. فقد توسعت رؤيته إلى ما هو أبعد من الزهد الفردي، لتشمل نظرية معرفية شاملة حول حقيقة الوجود والعلاقة بين الله والعالم. تبلور هذا التوجه في كتاباته الكبرى مثل الفتوحات المكية وفصوص الحكم، حيث ربط بين الكشف الصوفي والتأمل العقلي، مُقدِّمًا رؤية صوفية ذات طابع فلسفي عميق (ابن عربي، فصوص الحكم). 
ومن خلال استيعابه للموروث الفلسفي، خصوصًا الأفلاطونية والإشراقية، أعاد ابن عربي صياغة التصوف الإسلامي بطريقة جعلته يتجاوز حدود التجربة الشخصية إلى نظرية كونية حول الوجود والمعرفة.
نظرة وحدة الوجود 
بلغت أفكار ابن عربي ذروتها في نظريته حول "وحدة الوجود"، التي أثارت جدلًا واسعًا بين الفقهاء والمتكلمين. فقد طرح تصورًا يرى أن الوجود الحقيقي هو وجود الله، أما العالم فهو مجرد تجلٍّ لهذا الوجود المطلق، وهو ما عارضه كثير من العلماء الذين رأوا في ذلك تقويضًا للعقائد الإسلامية التقليدية. 
ورغم هذا الصدام، فإن تأثيره في التصوف الإسلامي كان عظيمًا، إذ أصبح فكره مرجعية للعديد من المدارس الصوفية اللاحقة، كما أثّر في الفلسفات الشرقية والغربية التي وجدت في رؤيته بعدًا ميتافيزيقيًا عميقًا (الجيلي، الإنسان الكامل؛ عبد الرحمن بدوي، شخصيات قلقة في الإسلام).
الكون كتجلٍّ إلهي
تُعد نظرية وحدة الوجود حجر الزاوية في التصوف الفلسفي عند ابن عربي، حيث يرى أن الوجود في حقيقته واحد، وأن تعدد الكائنات ليس إلا تجليات لهذا الوجود الإلهي المطلق. 
ويؤكد ابن عربي أن الله هو الحقيقة الوحيدة، وكل ما سواه ليس سوى صور وأسماء تنعكس عنه، فيقول: "سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها" (ابن عربي، فصوص الحكم، ص٦٧). هذه الفكرة لم تكن مجرد رؤية ميتافيزيقية، بل كانت تعبيرًا عن تجربة روحية عميقة حاول من خلالها تفسير العلاقة بين الخالق والمخلوق، بعيدًا عن التصورات الثنائية التي تفصل بين الله والعالم بطريقة حاسمة.
لم يكن قصد ابن عربي من وحدة الوجود أن الله هو عين الموجودات، بل إن الكائنات هي تجليات لأسمائه وصفاته. فهو يشبّه ذلك بانعكاس الصورة في المرآة، حيث تظهر صورة الإنسان في المرآة دون أن تكون المرآة هي الإنسان نفسه. 
بهذه الرؤية، حاول ابن عربي تقديم تفسير لسر التنوع في الكون، حيث يرى أن الله يتجلّى في صور لا متناهية، وأن كل شيء في العالم يعبر عن جانب من جوانب الحقيقة الإلهية (الفتوحات المكية، ج١، ص١٢٠). وبالتالي، فالعالم عنده ليس وجودًا مستقلًا، بل هو ظل للوجود الإلهي الحق، مما يفسر قوله: "العالم خيال، والحق هو المتجلّي فيه" (ابن عربي، فصوص الحكم، ص١٣٢).
أثارت نظرية وحدة الوجود جدلًا واسعًا بين العلماء والمتصوفة، حيث اتهمه بعض الفقهاء بالحلول والاتحاد، أي القول بأن الله يحل في مخلوقاته أو أنه متحد بها، وهو ما رفضه ابن عربي نفسه، مشددًا على أن تصوره أكثر تعقيدًا ولا ينبغي فهمه بمعانٍ حرفية. فالمعترضين رأوا في أفكاره خطرًا على العقيدة، بينما اعتبره أنصاره مجددًا في الفكر الصوفي، قدّم رؤية أكثر عمقًا للعلاقة بين الله والعالم (عبد الرحمن بدوي، شخصيات قلقة في الإسلام، ص٢٤٣). وقد استمر تأثير أفكاره في التصوف والفلسفة الإسلامية، حيث تبنّت مدارس صوفية لاحقة رؤيته، مع اختلاف في التفسير والتأويل.
المنهج الصوفي عند ابن عربي
يؤكد محيي الدين بن عربي على التمييز بين المنهج العقلي الاستدلالي الذي يعتمده الفلاسفة والمتكلمون، وبين المنهج الصوفي القائم على المعرفة الذوقية المباشرة. فهو يرى أن الفلاسفة يعتمدون على الفكر والاستدلال العقلي، ولذلك يصفهم بأنهم "أصحاب فكر لا ذوق"، بينما يعتبر الصوفية "أصحاب أذواق وأحوال" لأنهم يعتمدون على التجربة الروحية المباشرة في إدراك الحقائق (ابن عربي، الفتوحات المكية، ج٢، ص١٤٥). هذا التفريق يعكس رؤيته الخاصة حول المعرفة، حيث يرى أن الحقائق الإلهية لا تُدرك بالجدل العقلي، بل بالتجربة الوجدانية التي تُفضي إلى الكشف والشهود.
يرى ابن عربي أن المعرفة الصوفية تعتمد على ما يسميه المحدثون بـ"الحدس العقلي أو الحسي"، وهو ما يسميه أيضًا في الفتوحات المكية بـ"علم النظرة أو الضربة أو الرمية"، أي أنه إدراك فوري ومباشر للحقيقة في جوهرها دون الحاجة إلى وساطة عقلية (ابن عربي، الفتوحات المكية، ج٣، ص٩٨). 
هذه المعرفة تتماهى مع موضوعها، حيث إن العارف يتحقق من طبيعة الحقيقة ذاتها عبر الذوق، وهو ما يفسره بقوله: "الذوق هو الشهود المباشر للحقائق" (الفتوحات المكية، ج٤، ص٢١١). وبالتالي، فإن المعرفة الصوفية لا تقوم على تحليل أو استنتاج، بل على تجربة وجدانية يعيشها الصوفي بنفسه، مما يجعلها يقينية في نظره.
يستند المنهج المعرفي عند ابن عربي إلى عدة وظائف وآليات، أبرزها وظيفة القلب، حيث يعد القلب هو موضع التلقي الروحي والإشراق الإلهي، وهو ما يجعله مركز المعرفة الصوفية. كما يلعب الخيال دورًا أساسيًا في تمثّل الحقائق الروحية، إذ يتضمن الخيال مفاهيم مثل "عين البصيرة"، و"العقل الجزئي"، و"عين اليقين"، و"نور اليقين"، وهي مستويات من الوعي الصوفي تقود إلى الإدراك المباشر للحقيقة (ابن عربي، فصوص الحكم، ص١٣٢).
إضافة إلى ذلك، يشير ابن عربي إلى المعاريج الثلاثة التي تمثل درجات في المعرفة، حيث تفضي كل مرحلة إلى الأخرى، وصولًا إلى أعلى درجات الكشف والشهود، مما يجعل المنهج الصوفي رحلة روحية متكاملة نحو الحقيقة المطلقة.
فلسفة المحبة الكونية
يعد مفهوم المحبة عند ابن عربي من أبرز معالم فكره الصوفي، حيث تجاوز الفهم التقليدي للحب الإلهي ليؤسس رؤية عالمية تقوم على وحدة القلوب والتجلي الإلهي في كل شيء. في شعره الشهير:
"أدين بدين الحب أنى توجهتْ ركائبهُ، فالحب ديني وإيماني" (ابن عربي، ترجمان الأشواق، ص١١٢)،
يؤكد ابن عربي أن الحب هو المبدأ الجامع الذي لا يعترف بالحدود الدينية أو العرقية، بل يشمل كل الكائنات. فالمحبة عنده ليست مجرد عاطفة، بل هي تجربة روحية تدفع الإنسان إلى إدراك وحدة الوجود، حيث يرى العارف في كل محبوب تجليًا للألوهية، ويحب كل شيء حبًا يتجاوز المصلحة الشخصية أو الحدود الضيقة للعقيدة.
يرى ابن عربي أن المحبة هي القوة التي تربط الإنسان بالله وبالكون كله. فهو يعتبرها جوهر الوجود وأساس العلاقة بين الخالق والمخلوق، حيث يقول: "الحب هو سر الله في خلقه" (ابن عربي، الفتوحات المكية، ج٢، ص٣٢٧). هذا المفهوم يجعل الحب عنده ليس مجرد إحساس عابر، بل جوهرًا يتجلى في كل شيء، بدءًا من علاقة الإنسان بخالقه، مرورًا بعلاقته بنفسه، وانتهاءً بعلاقته بالآخرين. وهكذا، تتحول المحبة إلى طريق للمعرفة الروحية، حيث يدرك العارف أن كل كائن في الوجود هو مرآة تعكس نور الله، وبالتالي يصبح الحب هو الرابط الحقيقي بين جميع الكائنات.
يتجاوز ابن عربي في مذهبه في المحبة الفهم التقليدي القائم على التقسيم بين الأديان والأمم، فهو يرى أن الحب يتجاوز كل هذه التصنيفات، ويصبح دينًا عالميًا يوحد البشر جميعًا. هذا التصور جعله أحد أعلام الفكر الإنساني الذي يدعو إلى التسامح والانفتاح الروحي. 
تأثرت به العديد من المدارس الصوفية، مثل المولوية التي أسسها جلال الدين الرومي، والتي جعلت من الحب الإلهي جوهر التجربة الصوفية. وهكذا، فإن مذهب ابن عربي في الحب لا يقتصر على الجانب الروحي فقط، بل يحمل بعدًا فلسفيًا وإنسانيًا يدعو إلى التعايش والتفاهم بين البشر (قاسم، التصوف الإنساني عند ابن عربي، ص١٥٤).
بين التأييد والتكفير
لم يكن طرح ابن عربي حول وحدة الوجود سهل القبول لدى التيارات الفقهية والعقدية التقليدية، حيث واجه هجومًا شديدًا من قبل بعض العلماء، وعلى رأسهم ابن تيمية. 
فقد اعتبر ابن تيمية أن مفهوم وحدة الوجود يتعارض مع التوحيد الإسلامي، وذهب إلى حد وصف أفكار ابن عربي بأنها "إلحادية تتستر بلباس التصوف"، مشددًا على أن هذه العقيدة تؤدي إلى نفي الفرق بين الخالق والمخلوق، مما يناقض التوحيد القائم على التفريق بين الذات الإلهية والموجودات (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج٢، ص٣٦٦). وبسبب هذه الرؤية، أُدرجت بعض مؤلفات ابن عربي ضمن الكتب المحظورة في بعض الفترات، كما صدرت فتاوى بتكفيره أو تحذير الناس من قراءة أعماله.
في مقابل هذه المعارضة، وجد ابن عربي دعمًا كبيرًا من بعض المتصوفة والفلاسفة الذين رأوا في فكره أعمق تعبير عن التجربة الصوفية.
وكان عبد الكريم الجيلي من أبرز المدافعين عنه، حيث حاول في كتابه الإنسان الكامل شرح وتوضيح أفكار ابن عربي، معتبراً أن مفهوم وحدة الوجود ليس إنكارًا لوجود الله، بل هو فهم عميق لعلاقته بالعالم (الجيلي، الإنسان الكامل، ص٨٨).
كما دافع عنه صدر الدين القونوي، أحد أقرب تلاميذه، حيث بيّن أن ما قصده ابن عربي ليس الحلول أو الاتحاد، بل أن العالم انعكاس للأسماء والصفات الإلهية، وأن التعدد الظاهري في الموجودات لا يلغي الحقيقة الواحدة التي تقوم عليها (القونوي، مفتاح الغيب، ص٤٥).
رغم هذا الانقسام، لم تتوقف تأثيرات فكر ابن عربي، بل استمرت في تشكيل التصوف الإسلامي عبر العصور. فقد تبنّت مدارس صوفية كبرى رؤيته، مثل الطريقة النقشبندية في بعض فروعها والطريقة المولوية التي تأثرت بمفاهيمه حول التجلّي الإلهي. كما أن بعض الفلاسفة الإسلاميين، مثل ملا صدرا، أعادوا تفسير مفهوم وحدة الوجود بطريقة فلسفية تجمع بين رؤية ابن عربي والمباحث العقلية المستمدة من الفلسفة المشائية والإشراقية (ملا صدرا، الأسفار الأربعة، ج١، ص٣١٢). وهكذا، ظل فكر ابن عربي محور جدل بين التكفير والتأييد، لكنه في الوقت ذاته شكّل أحد أعمدة التصوف الفلسفي الذي أثر في الفكر الإسلامي لقرون.
إرثه في التصوف الإسلامي
رغم الجدل الذي أثاره فكره، ظل ابن عربي شخصية محورية في التصوف الإسلامي، إذ أثرت رؤاه العميقة في العديد من الطرق الصوفية الكبرى، مثل النقشبندية والمولوية والخلوتية. تبنّت هذه الطرق بعض أفكاره المتعلقة بالتجلّي الإلهي والسير الروحي، وإن بدرجات متفاوتة، وفقًا لمرجعياتها العقدية والفكرية. 
على سبيل المثال، تأثرت الطريقة المولوية، التي أسسها جلال الدين الرومي، بمفاهيمه حول وحدة الوجود وتجليات الحب الإلهي، وهو ما انعكس في أشعار الرومي وتعاليمه حول الفناء في المحبوب (الرومي، المثنوي، ج٣، ص١١٢).
لا يزال كتابا الفتوحات المكية وفصوص الحكم من أهم الأعمال التي تبلور من خلالها فكر ابن عربي، حيث قدم فيهما رؤية شمولية للعالم والوجود تقوم على مفهوم التجلي الإلهي والحب الإلهي المطلق. في الفتوحات المكية، استعرض رحلته الروحية والتجارب العرفانية التي خاضها، مشددًا على أن الوجود كله مراتب من التجليات الإلهية التي يدركها العارف وفق استعداده الروحي (ابن عربي، الفتوحات المكية، ج١، ص٨٨).
أما في فصوص الحكم، فقد ركّز على شرح أعمق لنظرية وحدة الوجود من خلال تأويله لحكم الأنبياء، مبينًا كيف أن كل نبي يمثل تجليًا لحكمة إلهية معينة، مما جعل الكتاب مصدرًا رئيسيًا للجدل بين المتصوفة والفقهاء على حد سواء (ابن عربي، فصوص الحكم، ص٤٥).
حتى اليوم، لا يزال ابن عربي لغزًا فكريًا وروحيًا بين من يعتبره منبع الحكمة الإلهية ومن يراه رمزًا للجدل في التصوف الإسلامي. هناك من يراه وليًّا كشف الله له عن أسرار لم تتجلَّ لغيره، ومنهم من يعتبره فيلسوفًا صوفيًا بالغ في تأويلاته حتى وصل إلى تخوم الفلسفة الباطنية. بعض العلماء، مثل محمد إقبال، انتقدوا تأثيره على الفكر الإسلامي، معتبرين أن تصوفه يتعارض مع روح الإصلاح العملي في الإسلام، بينما رأى آخرون، مثل رينيه جينون، أن فكره يمثل قمة الحكمة الباطنية في الإسلام (جينون، مدخل إلى عقيدة التصوف الإسلامي، ص٩٩). وهكذا، يظل ابن عربي شخصية إشكالية ذات تأثير عميق، لم تفقد قدرتها على إثارة النقاش حتى في العصر الحديث.
شمس الهوى في النفوس لاحت
فأشرقت عندها القلوب
الحب اشهى إليّ مما
يقوله العارف اللبيب
يا حُبّ مولاي
لا تولّي عنّي
فالعيش لا يطيب
لا أنس يصفو
للقلب إلا إذا
تجلّى له الحبيب
وأخيرا يعد ابن عربي أحد المفكرين الكبار الذين أحدثوا تحولًا جوهريًا في الفكر الصوفي، حيث انتقل به من كونه مجرد منهج زهد وأخلاق إلى رؤية فلسفية عميقة تتناول طبيعة الوجود والعلاقة بين الخالق والمخلوق. من خلال نظريته في وحدة الوجود، استطاع أن يقدم تصورًا ميتافيزيقيًا شاملًا يرى في الكون تجليًا للحق الإلهي، وهو ما جعل تصوفه أقرب إلى أن يكون نظامًا فكريًا متكاملًا يتداخل فيه البعد الروحي مع الفلسفة العرفانية (ابن عربي، الفتوحات المكية، ج٣، ص٢١٤). هذه الرؤية لم تكن مجرد اجتهاد فردي، بل أثرت في التصوف الإسلامي لاحقًا، مما جعل فكره أحد أعمدة التصوف الفلسفي.
ظل فكر ابن عربي مثار جدل واسع بين العلماء والمتصوفة، فقد رآه البعض فيلسوفًا روحانيًا قدم رؤية متماسكة للعلاقة بين الله والعالم، بينما اعتبره آخرون صاحب تأويلات خطيرة تتعارض مع العقيدة الإسلامية. انتقده الفقهاء، خاصةً ابن تيمية، الذي عدّ نظريته في وحدة الوجود نوعًا من الحلول والاتحاد (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج٢، ص٣٦٦). في المقابل، دافع عنه صوفيون كبار، مثل صدر الدين القونوي وعبد الكريم الجيلي، مؤكدين أن فهمه لا ينبغي أن يكون حرفيًا، بل يجب النظر إليه بوصفه تعبيرًا عرفانيًا عن الحقيقة الإلهية (الجيلي، الإنسان الكامل، ص٨٩). هذا التباين في الرؤى يؤكد عمق تأثيره الفكري وثراء جدله العلمي.
ورغم الجدل الذي أحاط بفكره، لا يمكن إنكار التأثير العميق لابن عربي على التصوف الإسلامي، حيث شكلت كتبه، خاصة الفتوحات المكية وفصوص الحكم، مرجعيات أساسية في الفكر الصوفي والفلسفة العرفانية. لقد أسس مدرسة فكرية تستمر حتى اليوم، حيث لا يزال مفهومه عن وحدة الوجود ورؤيته حول الحب الإلهي مصدر إلهام للمتصوفة والباحثين على حد سواء. امتد تأثيره إلى خارج العالم الإسلامي، حيث وجدت أفكاره صدى في بعض الفلسفات الروحانية الغربية، مما يعكس عالميته واتساع رؤيته (قاسم، التصوف الفلسفي عند ابن عربي، ص٢٠٢). وهكذا، يبقى ابن عربي أحد أكثر المفكرين الصوفيين حضورًا في التراث الإسلامي، وشخصية لا تزال تلهم الفكر الروحي حتى يومنا هذا.

الاقسام


© 2021 Albawabhnews All Rights Reserved.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق رنا هاني: رمضان فرصة لتعليم الأطفال الهدوء وضبط النفس «فيديو» - خليج نيوز
التالى مسلسل الشرنقة الحلقة 2 … أحمد داود يعيش أحلام اليقظة - خليج نيوز