شم النسيم من أقدم الأعياد التى يحتفل بها الشعب المصري مع إشراقة شمس الأثنين التالى ليوم أحد القيامة المجيد ، وهو عيد مختلف وله خصيوصية شديدة عن بقية الأعياد الوطنية والدينية ،فهو الأكثر زخما الذى يستوعب كل المصريين باختلاف طبقاتهم الاجتماعية وانتماءاتهم السياسية والأهم أنه الطقس الاحتفالي الوحيد الذى يجمعهم منذ آلاف السنين ، بمختلف عقائدهم الدينية دون أن يلبس ثوبا عقائديا على الإطلاق .
شم النسيم رمز للعيد المصري الخالص والخاص بهم فقط الذى يشبههم ولا يشبه غيرهم، خرج من رحم الطبيعة المصرية ليتأصل في الوجدان ليس كمورث حضاري احتفالي ولكن كجزء من التركيبة الجينية للمصريين .
وشم النسيم هذا العيد الذي يؤرخ له مع نشأة الإنسانية ، رغم بساطته إلا أنه يعكس عبقرية فريدة فى الحفاظ على الهوية المصرية المتفردة التى لم يستطع أحد أن يغيرها او يهزمها.
مصر اِستطاعت أن تستوعب كل الثقافات الوافدة المتعاقبة، عبر تاريخها وجعلتها تنصهر داخل هوامش خصوصيتها الحضارية وكانت الأقوى والأعمق رقيا و فكريا و علميا ،فهى تغير و لا تتغير ، هي التى تمصر كل آتٍ جديد، تحتويه ثم تشكله وتفرزه منتجا مصريا صميما ، ولذلك لم تستطع الموجات الاستعمارية التى توالت على مصر أن تقهر الهوية المصرية، فقد شكلت حائط صد منيع ضد كل من حاول الاقْتراب من مفرداتها الحضارية.
عندما اعتنق المصريون المسيحية ، أخرجوا منه نسختهم القبطية الخاصة بلون حضارتهم ومصريتهم، وعندما دخل الإسلام مصر مصّرت مصر الإسلام كما فعلت مع المسيحية، فقُرا القرآن باللهجة المصرية، واعتنق المصريون الإسلام بإرثهم التاريخي ، فحافظوا علي ثوابت معتقداتهم الدينية لكن فى ضوء مخزونهم الحضاري ، و هو سر أسرار الشخصية المصرية التى استجابت للمتغيرات لكن فى إطار مغلف من الخصوصية شديدة التفرد .
جمعت الهوية المصرية الفرعونية على امتدادها التاريخي بين مختلف الثقافات والديانات وكونت كل هذه التنويعات الحضارية مخزون إنساني ، أفرز لنا شخصية ذات طابع متميز متماسك يصعب بل يستحيل تشابهها، فاستطاعت أن تتخطى الفوارق العقائدية والعرقية، فى دلالات واضحة على عمق تراثها شديد الثراء، الذى حفظ لها طبيعتها الفريدة غير القابلة للتكرار أو النسخ حتى ولو أصابها الوهن وهى واحدة من تجليات العبقرية المصرية، التى تفسر عظمة الشخصية المصرية المحبة للحياة والبهجة، والمستأثرة بحالة إنسانية ووجدانية خاصة جدا .
وشم النسيم سيمفونية مصرية فرعونية الأصل، برهنت علي قدرة و استثنائية الهوية المصرية على الصمود في وجه كل من يحاول أن يعبث بالثوابت المتأصلة في الوجدان المصري ، وجسد النموذج وظل يتنقل عبر أكثر من 5 آلاف عام من جيل لآخر بنفس الطقوس والعادات والتقاليد بل والتفاصيل ، في شكل يشبه الأعياد القومية الكرنفالية ، ووحّد بين الجميع في كيان واحد متجانس بطريقة تثير الإعجاب والدهشة في آن واحد .
الهوية المصرية متفردة الطابع وحالة إنسانية ووجدانية خاصة جدا غير قابلة للاختزال أو التجزئة، وهو ما أكده واحدا من عباقرة نتاج هذا المزيج الحضاري د .طه حسين في كتابه الأبرز مستقبل الثقافة المصرية، حيث يرى أن الهوية المصرية ظلت تحافظ على حريتها دون جمود ، تشكل ذاتها دون أن يستطيع أحد تشكيلها عنوة او قهرا فهذا الأصيل على مدار حضارته الممتدة لآلاف السنين لم يتحول من نص مقدس إلى مطية، وللهوية المصرية فصول من العشق كل عام وانتم بخير.