في تلك الغرفة الصغيرة بأحد مستشفيات باريس، أسدل الموسيقار بليغ حمدي الستار على رحلته الفنية والإنسانية الطويلة، ولفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعي آخر من أحبها وأحبته… عازفة البيانو نانسي فاروق.. كانت بجواره في لحظة الرحيل، حين قال بصوت متهدج: “أنا عايز أروح مصر.. احضنيني قوي.. أنا حاسس إني باروح”.
الطير المسافر.. بليغ حمدي يودع الحياة بين ذراعيها
“نانسي”، الفتاة التي دخلت حياة بليغ في سنواته الأخيرة، لم تكن مجرد رفيقة، بل كانت الحالة الوحيدة من الصدق كما وصفها. قال لها ذات يوم: “انتي الوحيدة اللي هتعرفي تتكلمي عني بعد ما أموت.. ربنا حطك في طريقي علشان تقولي للناس مين هو بليغ حمدي الحقيقي.. ابن عيشة مش بس الموسيقار المشهور”.
في تلك الفترة، لم يكن بليغ حمدي يعيش فقط ألم المرض، بل كان يحاول استعادة كرامته بعد رحلة مريرة في المحاكم، انتهت بتبرئته من التهمة التي طاردته سنوات، فعاد إلى مصر مكسور القلب، متعب الجسد، لكنه كان يحتمي بحب نانسي، تلك الطالبة بكلية التربية الموسيقية، التي صادفها القدر فكانت ملاذه ورفيقته.
كان بليغ يراها ملهمته، يسمح لها بالجلوس بجواره أثناء التلحين، وهي الوحيدة التي رأت دموعه تنساب بصمت، كما حدث ذات يوم حين توقف بسيارته في إشارة مرور ولاحظ ركاب ميكروباص من البسطاء يشيرون إليه بحب: “أستاذ بليغ.. حمدالله على السلامة.. مصر نورت بيك”. يومها التفت إلى نانسي وقال: “الموقف ده عندي بكل فلوس الدنيا.. عمر الفلوس ما تشتري حب الناس”.
نانسي هي أيضًا من تحتفظ بآخر صور له، التقطت في باريس قبل وفاته، وهي من حملت وصيته أن تزوره كل عام في ذكرى وفاته، وتضع على قبره أربع وردات بعدد حروف اسمه: “بليغ”.
بعد وفاته في 12 سبتمبر 1993، رحل “ملك الموسيقى”، لكنه ترك خلفه وصية، وشاهدة على ما لم يرو بعد من تفاصيل حياته. نانسي، التي عاش معها سنواته الأخيرة، ما زالت تحتفظ بكلماته ودموعه، وربما آن الأوان أن تفي بوعده… وتحكي للعالم عن بليغ الإنسان.
رحم الله بليغ حمدي، الطير الذي حلق كثيرًا، وودع الحياة في حضن من أحب.