في عالم الأدب المعاصر، يُعرف الكاتب البريطاني "مات هيج" بقدرته الفريدة على تحويل أكثر الأسئلة وجوديةً إلى سرد بسيط، وصادق، ومؤثر.. روايته "البشر" نجحت بامتياز في أن تصنع مرآة غريبة نرى فيها أنفسنا كبشر للمرة الأولى، وكأننا لسنا نحن!
لقد حصدت الرواية إعجاب القرّاء والنقاد حول العالم؛ إذ أخذتنا إلى كوكبنا بأعين كائن فضائي أُرسل متخفيًا في هيئة بروفيسور رياضيات يُدعى "أندرو مارتن"، بهدف إيقاف اختراع بشري عظيم قد يهدد توازن الكون،لكن سرعان ما تتحول مهمة هذا الكائن إلى التعاطف مع البشر.
منذ اللحظة الأولى لهبوطه، اخْتَبَرَ أبسط مظاهر البشرية، مثل الملابس، فرآها طقوسًا من طلاسم غير مفهومة.. هو لا يرى الثياب مجرد قماش، بل رمزًا للهوية، والسلطة، والمكانة، وربما حتى الوجود فلم يرتديها.
حين وُضع في الزنزانة ـ بعد ضبطه عَارِيًا بلا ثياب عقب وصوله إلى الأرض ـ بدأ يدرك أن الخوف البشري لا ينبع من الموت، بل من القيود والحبس. وبينما كان بإمكانه الهرب، اختار البقاء، لا بدافع الطاعة، بل لأن "التشبه" بالبشر كان جزءًا ضروريًا من مهمته.
استجوابه بعد ضبطه، بعد أن سأله ضابطان عن رفضه ارتداء الثياب،أدى إلى تحويله إلى طبيبة أمراض نفسية، فكانت الجلسة النفسية مع الطبيبة "بريتي"
وهنا تتجلى عبقرية الكاتب "مات هيج"، عندما كتب عن هذا اللقاء بين الكائن الفضائي والطبيبة النفسية، فقد صوّر ما دار بينهما هكذا:
قالت لي إنها تواصلت مع الجامعة، وكيف تواصلت معهم؟ لا أعرف، ثم قالت لي:
ـ «أخبروني أنك قد عملت ساعات أطول مؤخرًا مقارنة بزملائك. يبدو أن عُرِيَك قد أزعجهم، لكنهم قلقوا عليك، كما تقلق عليك زوجتك».
ـ «زوجتي؟»
سرح الكائن الفضائي، لقد عرفت أن لدي زوجة، وعرفت اسمها، لكنني لم أفهم حقًا ما يعنيه في الواقع أن يكون لدي زوجة، الزواج مفهوم غير مألوف بالنسبة إليّ، وظننت أنه لا توجد مجلات كافية على هذا الكوكب لفهمه من خلالها.. لقد أوضحت لي هذه الطبيبة معنى الزواج، فازددت حِيرَةً،
الزواج يعني "ارتباط محبة"، أي بقاء شخصين يحبان بعضهما معًا إلى الأبد، لكن يبدو أن الحب قوة هشة للغاية، ويحتاج إلى الزواج لتدعيمه،أيضًا، يمكن كسر هذا الاتحاد بشيء اسمه "طلاق"، ما يعني ـ منطقيًا ـ وجود فائدة بسيطة منه.
لم تكن لدي أي فكرة حقيقية عن معنى "الحب"، رغم كونه إحدى أكثر الكلمات استخدامًا في المجلات التي قرأتها فقد ظل معناها ملغزًا؛ ولهذا طلبت من المرأة شرحه لي، فازددت حيرةً فوق حيرتي.
ثم سألتني:
ـ «هل تريد قهوة؟»
فأجبتها: «نعم»
جاءت بالقهوة. تذوقتها، فكانت حارة، كريهة، حمضية، من مركب سائل مزدوج الكربون، فبصقتها عليها،في فعلي هذا خرق كبير لآداب السلوك البشري؛ كان من المفترض أن أبتلعها..
وقفت لتنظف نفسها بقلق على قميصها، ثم سألتني بعدها أسئلة أكثر،أسئلة يستحيل الإجابة عنها: ما عنوانك؟ ماذا تفعل في وقت فراغك للاسترخاء؟
كان بإمكاني خداعها بسهولة.ولكنى كنت أرى أن عقلها طري ومطواع، وذبذباته المحايدة ضعيفة بشكل ظاهر، ومع إلمامي البسيط باللغة، كان يمكنني أن أقول لها إني بخير، وأطلب منها أن تتركني وشأني... لكنني لم أفعل، وصمت.
فقالت:
ـ «إذا أخفقتَ في أحد الاختبارات، فسيكون هناك اختبار لمعرفة سبب إخفاقك».
فكان تعليقه الداخلي:
أعتقد أن البشر عشقوا الاختبارات لأنهم آمنوا بالإرادة الحرة.. لقد بدأت أكتشف أنهم آمنوا بأنهم مسؤولون عن حيواتهم، ولهذا شعروا بالرهبة من الأسئلة والاختبارات، لأنها تشعرهم بالفوقية على الناس الذين فشلوا باختياراتهم، والذين لم يتهيؤوا بجد لإيجاد الإجابات الصحيحة،ومع نهاية آخر اختبار أخفقوا فيه، جلس كثيرون ـ كما جلست أنا ـ في مستشفى للأمراض العقلية!
وهذا مجرد فصل من حكاية الكائن الفضائي أندرو مارتن"، والمزيد من الدهشة ينتظرنا..
الاسبوع القادم باذن الله أكمل القراءة فى رواية البشر للكاتب البريطاني "مات هيج"