من كابو ديلجادو إلى نياسا.. كيف يعيد داعش رسم خريطته في موزمبيق؟ - خليج نيوز

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في خبر بثّته وكالة "أعماق" التابعة لتنظيم داعش، تبنّى التنظيم هجومًا وصفه بـ"النوعي"، استهدف موقع "كامباكو" السياحي في محافظة نياسا شمال موزمبيق يوم السبت 19 أبريل، وأسفر عن مقتل ستة جنود من القوات الموزمبيقية، وتدمير آليات ومعدات بينها طائرة مروحية، فضلًا عن إحراق منشآت سياحية واغتنام أسلحة. الهجوم الذي وقع داخل محمية "نياسا" يُعد تصعيدًا ميدانيًا ذا بعد رمزي، إذ صرّحت الوكالة أن العملية استهدفت "نصارى موزمبيق وحكومتهم واقتصادهم".

هذا الإعلان لا يمرّ مرور الكرام، إذ يكشف عن تحوّل في استراتيجية التنظيم نحو ما يمكن تسميته بـ"جهاد الاقتصاد"، عبر ضرب القطاعات الحيوية للدول الهشة أمنيًا، وعلى رأسها السياحة. فموزمبيق، رغم فقرها، تعتمد بشكل متزايد على المحميات الطبيعية لجذب السياح والمستثمرين الأجانب، وهو ما يجعلها هدفًا مثاليًا للجماعات التي تتغذى على الفوضى وانهيار الثقة بين المواطن والدولة.

ما وراء الرمزية الدينية والاقتصادية؟

لم يعد استهداف المواقع السياحية والاقتصادية أمرًا جديدًا في استراتيجية تنظيم داعش، إذ سبق له أن ضرب منشآت مماثلة في العراق وسوريا ونيجيريا وغيرها، مستهدفًا بذلك ما يراه "مصادر للتمكين الاقتصادي للكفار". إلا أن اللافت في الهجوم على محمية "نياسا" هو إقحام البُعد الديني بوضوح، حيث يصف التنظيم الموقع بأنه "سياحي نصراني"، في محاولة لربط الاستهداف بالأيديولوجيا العقدية. هذا التصنيف لا يستند إلى حقائق دينية بقدر ما يعكس عقلية الإقصاء التي تروّج لها أدبيات التنظيم، والتي تعتبر كل ما يرتبط بالغرب أو بالمسيحية هدفًا مشروعًا ضمن ما تسميه "الجهاد ضد الصليبيين".

ويُلاحظ أن هذا النوع من الخطاب يضفي طابعًا طائفيًا مقصودًا على هجمات عسكرية ذات أهداف اقتصادية في الأصل، إذ يسعى التنظيم من خلال هذه اللغة إلى تبرير استهداف المدنيين والبنية التحتية، وطمس الفرق بين الجبهة العسكرية والمدنية. فالحديث عن شركات سياحية "نصرانية" لا يعني بالضرورة أنها ذات صبغة تبشيرية أو دينية، بل قد تكون شركات تجارية بحتة، ولكن التنظيم يعمد إلى شحن عملياته بدلالات دينية من أجل تضليل الأتباع واستقطاب أنصار جدد، ولإضفاء مشروعية زائفة على أعماله التخريبية التي تضرب استقرار المجتمعات وتستهدف التنمية المحلية في دول تعاني أصلًا من الهشاشة الاقتصادية والسياسية.

الهجوم يضرب في عمق ثلاث دوائر:

الدائرة الأمنية

الهجوم شكّل ضربة نوعية في البُعد الأمني، إذ استهدف بشكل مباشر كلًا من القوات النظامية الموزمبيقية وعناصر شركات الأمن الخاصة المكلّفة بحماية المواقع السياحية. فمقتل ستة جنود في اشتباك مباشر، إضافة إلى قتل حراس من شركة أمنية خاصة، يؤكد اختراقًا واضحًا للمنظومة الأمنية في منطقة يُفترض أنها تخضع لمراقبة وحماية مشددة، خصوصًا داخل محمية طبيعية ذات طابع استثماري. هذا النوع من الضربات يُحدث ارتباكًا في صفوف القوات الميدانية، ويُظهر قصورًا في التنسيق الاستخباراتي، ما يمنح التنظيم مساحة لتعزيز صورته كقوة مهاجِمة لا زالت قادرة على المبادرة رغم الضغوط العسكرية.

الدائرة الاقتصادية

من الناحية الاقتصادية، استهدف الهجوم منشآت سياحية واستثمارية ذات أهمية، عبر إحراق معدات وآليات، بينها طائرة مروحية، ما يُلحق ضررًا مباشرًا بقطاع السياحة البيئية في البلاد، وهو من الموارد النادرة التي تراهن عليها موزمبيق لتعزيز اقتصادها المحلي. مثل هذه العمليات تؤدي إلى هروب الاستثمارات وتراجع ثقة الشركات الأجنبية في البيئة الأمنية، كما تنعكس سلبًا على فرص العمل والدخل للسكان المحليين الذين يعتمدون على هذه المشاريع. التنظيم يدرك أن تقويض البنى التحتية الاقتصادية في الدول الهشة هو أحد أسرع الطرق لإضعاف الحكومات وتوسيع الفوضى.

الدائرة الرمزية

أما على المستوى الرمزي، فيحمل الهجوم دلالة واضحة على قدرة التنظيم على الحركة والضرب في عمق الأراضي الموزمبيقية، رغم حملات القمع والملاحقة الأمنية المكثفة التي يتعرض لها منذ سنوات. الموقع المستهدف داخل محمية "نياسا" بعيد نسبيًا عن بؤر النزاع الساخنة، ما يعني أن التنظيم لم يُهزم بل يعيد الانتشار وينقل معركته إلى مناطق أقل توقعًا. هذه الرسالة موجهة إلى الداخل والخارج على حد سواء: إلى خصومه بأنه ما زال فاعلًا، وإلى أنصاره بأنه لم يفقد زمام المبادرة، مما يعزز روايته الدعائية عن "الصمود" و"التمدد رغم الحصار".

لماذا نياسا؟ ولماذا الآن؟

محافظة نياسا تحتل موقعًا جغرافيًا بالغ الأهمية بالنسبة لأي تنظيم مسلح يسعى إلى التوسع وإعادة التموضع. فهي تقع في شمال موزمبيق، وتُعد منطقة جبلية وعرة تغلب عليها الغابات والممرات الطبيعية الوعرة، ما يمنح المسلحين هامش حركة واسعًا وقدرة على التخفّي والتنقل بعيدًا عن أعين السلطات. كما أن نياسا تحدّها من الشمال تنزانيا ومن الغرب ملاوي، ما يجعلها منطقة مثالية للتهريب العابر للحدود والانسحاب التكتيكي عند الضغط العسكري. أما محمية "نياسا" السياحية تحديدًا، فهي أقل تحصينًا من الناحية العسكرية مقارنة بمناطق النزاع الساخنة مثل إقليم كابو ديلجادو، ما يجعلها هدفًا سهلًا وفعّالًا للهجمات السريعة، خصوصًا تلك التي تستهدف رموز الدولة الاقتصادية أو الأمنية.

توقيت الهجوم لا يقل أهمية عن موقعه؛ فهو يأتي في لحظة يعاني فيها التنظيم من تراجع ميداني واضح في معاقله التقليدية بإقليم كابو ديلجادو، نتيجة للعمليات العسكرية المشتركة التي تشنها القوات الموزمبيقية مدعومة بوحدات من الجيش الرواندي وقوات مجموعة التنمية لإفريقيا الجنوبية (سادك). هذا الضغط العسكري أجبر التنظيم على البحث عن مناطق جديدة يُعيد من خلالها بناء شبكاته وخطوط إمداده، دون الدخول في مواجهات مباشرة غير متكافئة. الهجوم في نياسا يُعد رسالة مزدوجة: من جهة يؤكد أن التنظيم ما زال قادرًا على المبادرة وشنّ عمليات نوعية رغم الحصار؛ ومن جهة أخرى يختبر جاهزية الجيش الموزمبيقي في مناطق لم تُعرف سابقًا كجبهات صراع، مما يساهم في توسيع جغرافيا الاشتباك ونقل المعركة إلى أراضٍ جديدة.

البعد الإعلامي والدعائي

لا يمكن قراءة هذا الهجوم بمعزل عن استراتيجية التنظيم الإعلامية التي دأب على توظيفها منذ نشأته، والتي تقوم على تضخيم أثر عملياته الميدانية لصناعة "صورة ذهنية" أكبر من الواقع. فالتنظيم، عبر وكالة "أعماق"، ركّز على إبراز عناصر محددة مثل إحراق طائرة مروحية والسيطرة على "موقع سياحي ثمين"، وهي تفاصيل قد لا تكون حاسمة ميدانيًا، لكنها تُستخدم إعلاميًا كأدوات لإظهار القوة والمباغتة. في هذه اللغة الدعائية، لا يهم حجم العملية بقدر ما يهم قدرتها على إحداث صدمة نفسية لدى العدو، وبث الانبهار أو الحماسة في أوساط المتابعين أو المتعاطفين.

هذا النوع من العمليات يندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ"الصدمات الرمزية"، وهي هجمات لا تهدف بالضرورة إلى السيطرة على الأرض أو تحقيق نصر استراتيجي، بل إلى تسجيل حضور مدوٍّ في الفضاء الإعلامي. فتنظيم الدولة يدرك أن المعركة اليوم لا تُخاض بالسلاح فقط، بل بالكاميرا والبيان والخبر العاجل. ومن خلال تصوير عملياته على أنها نوعية وضخمة، يسعى إلى رفع معنويات أنصاره الميدانيين، واستقطاب عناصر جديدة قد تتأثر بقوة "الحدث المصوَّر"، وفي الوقت ذاته توجيه رسالة ردع إلى خصومه مفادها أن التنظيم لا يزال حاضرًا ومبادرًا، وقادرًا على تجاوز الحصار العسكري بتحقيق اختراقات دعائية واسعة التأثير.

الإرهاب كأداة لتقويض الدولة

ما حدث في محافظة نياسا لا يمكن اختزاله في كونه مجرد هجوم مسلح نفذته جماعة متطرفة، بل هو تعبير واضح عن استراتيجية منظمة تسعى لتقويض مقومات الدولة الموزمبيقية من جذورها. فاختيار هدف اقتصادي في منطقة مهمّشة أمنيًا، واستهداف منشآت حيوية تعود بالنفع على المجتمع المحلي، يعكس إدراكًا عميقًا من التنظيم لنقاط ضعف الدولة وهشاشتها. إنها ضربة موجهة ضد فكرة السيادة نفسها، وضد قدرة الدولة على حماية أراضيها، وتشجيع مزيد من الفوضى التي يمكن استثمارها لاحقًا لتوسيع النفوذ. بهذا المعنى، يصبح الإرهاب أداة ممنهجة لتفكيك السلطة المركزية، وفرض واقع جديد تتحرك فيه الجماعات المسلحة كقوى منافسة للدولة.

وما لم يتم التعامل مع هذه التهديدات بمنظور شامل يتجاوز الحلول العسكرية، فإن التنظيمات المتطرفة ستستمر في استغلال الفراغات الأمنية والثقافية والاجتماعية. المواجهة لا يجب أن تقتصر على البندقية والملاحقة، بل ينبغي أن تتضمن تفكيك خطاب الجماعات المتطرفة، وفضح استغلالها للدين، وتحصين المجتمعات من الداخل عبر التعليم والتوعية وبناء الثقة بين الدولة والمواطن. فالدول الإفريقية التي تعاني من هشاشة اقتصادية وتعدد ديني وعرقي، تُعد أرضًا خصبة لتكاثر مثل هذه التنظيمات إذا تُركت دون معالجة جذرية. وكما حدث في أجزاء من سوريا والعراق، فإن الإهمال أو التردد في المواجهة قد يسمح لهذه الجماعات بالتحول إلى سلطات أمر واقع، تفرض رؤيتها بقوة السلاح والدعاية والفراغ.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق محرر بالمركز الأطلسي: الأوكرانيون يخشون من تحول شراكة المعادن إلى ثمن سياسي - خليج نيوز
التالى والد الطفل ياسين: شوفت العذاب.. وفضلت آخد حق ابنى بالقانون خليج نيوز