
في العتبة الثالثة من أعمارنا، حين نتجاوز العشرينات بما فيها من رعونة التجريب وانفلات الأسئلة، ونلج إلى الثلاثين، لا يعود العمر مجرّد رقم بل يصبح مرآةً نحدّق فيها باحثين عن ملامحنا الحقيقية. ففي الثلاثين، لا نركض خلف الحياة كما كنا نفعل في العشرينات، بل نقف في منتصف الطريق، نلتقط أنفاسنا، وننظر للخلف بعين متفحصة، وللأمام بنضج جديد. كتاب «متعة أن تكون في الثلاثين» لعلا ديوب ليس تأريخًا لسيرة ذاتية ولا دليلًا إرشاديًا، بل هو أقرب إلى خريطة عاطفية وفكرية مرسومة بالحبر والحنين والتجربة.
تتسم لغة علا ديوب برقةٍ فطرية وشفافيةٍ محببة، فتخاطب القارئ لا من علٍ، بل كصديقة قديمة تهمس له بالحكمة وقد خاضت معترك الأسئلة، ومضت في دروب الانكسار والتجلّي. كتابها هذا هو اعترافات صغيرة في شكل تأملات كبيرة. تنثرها الكاتبة في سطورها فتضيء عتماتنا نحن، القرّاء، وتدفعنا إلى أن نرى الثلاثين لا كحافة عمرية بل كذروة للاكتمال والتصالح مع الذات.سنغوص في قلب الكتاب، محاولين تفكيك أبعاده الجمالية والفكرية والوجدانية، من خلال خمسة فصول متعمقة، تُعنى بالزمن والهوية واللغة والمفارقات التي ترسم خطوط التجربة الثلاثينية. وسنختم بتأملات مفتوحة حول معنى النضج الذي تقترحه علا ديوب: نضج لا يستند إلى صرامة التجارب، بل إلى رقتها.
أرض جديدة
أن تبلغ الثلاثين، يعني أن تمرّ بمخاض لا مرئي، يحرّرك من جاذبية العشرينات الصاخبة، ويقذفك إلى أرضٍ جديدة لا يعلو فيها صوتٌ على صوت الذات. في هذا العمر، لا تُعلن الثورة على الآخرين، بل على صورك القديمة، على نسختك السابقة التي تاهت طويلًا في زحام المعايير، وفي الرغبة المزمنة بأن تكون محبوبًا، مُرضيًا، مُنقذًا.
تكتب علا ديوب: "في الثلاثين، لا أريد أن أبدو أصغر من عمري، أريد أن أبدو في الثلاثين تمامًا، لأنها جميلة كما هي."
ليست هذه الجملة محض وصف عابر، بل إعلان رقيق لنهاية مرحلة من التبرؤ، وبداية عهد من المصالحة. فقد نشأ جيل بأكمله على الخوف من التقدّم في العمر، جيل اعتاد أن ينظر إلى الثلاثين بوصفها بوابة الانطفاء، خطًا فاصلًا بين "الحياة" وبين ما بعد الحياة، وكأن الإنسان إذا ما عبر هذا العتبة بات مهددًا بفقدان الدهشة، بالذبول، وبالإلغاء التدريجي لذاته.لكن ديوب، بلغة مشبعة بالحكمة الحنونة، تحوّل هذه الصورة القاتمة إلى مشهد مُشرق. إنها لا تكتب عن الثلاثين كأزمة، بل كيقظة. لا كذروةٍ تُغلق بعدها الأبواب، بل كبداية جديدة لا تحتاج إلى ضوضاء، بل إلى إنصات عميق.
في الثلاثين – تقول ديوب ضمنيًا – يصبح الصمت أعلى صوتًا. إذ لم تعد في حاجة إلى الصراخ لإثبات وجودك، ولا إلى العلاقات العشوائية لتأكيد استحقاقك للحب، ولا إلى النجاح السريع لتبرير قيمتك. كل ما تحتاجه، أن تكون حاضرًا في جسدك، في اختياراتك، في قلبك، وأن تدرك أنك، ببساطة، كافٍ.
هذه الكفاية، التي تتسلل تدريجيًا في هذه المرحلة العمرية، ليست هبة بل ثمرة لتجارب طويلة، لمحاولات بائسة ومجيدة في آن، لعلاقات انتهت، لأحلام تكسّرت ثم رمّمت، لشعور بالضياع قادك إلى طريقك. تقول ديوب: "في الثلاثين، لا أحب من لا يحبني، ولا أجامل من لا يستحق، ولا أرتدي قناعًا لأبدو مثالية."هذه العبارة، ببساطتها البالغة، تختزل عمقًا وجوديًا كثيفًا: لقد انتهى زمن المجاملات التي تُستنزف من روحك، وزمن الهرولة خلف ما لا يستحق. من الآن، كل خطوة هي قرار، كل علاقة هي اختيار، لا حاجة للشرح ولا للتبرير، فالذي تعلّم الصمت الجميل في وجه الإساءة، لن يغريه الصخب الفارغ بعد الآن.
ملاذات
ثمة هدوء جديد يطغى على الثلاثين. لا لأنه خالٍ من العواصف، بل لأن صاحبه لم يعد يقاوم كل موجة، بل يختار كيف يبحر، ومتى يرسو. تكتب علا ديوب بصوتٍ أقرب إلى المناجاة: "في الثلاثين، توقفت عن لوم نفسي على الأشياء التي لم أكن أعرفها."
وهنا، تتجلّى أعمق ثورة قد يمرّ بها الإنسان في حياته: الثورة على جلد الذات. لقد استنفدنا في العشرينيات طاقة كبيرة في محاولة تبرير الماضي، وتفسير الأخطاء، والتنديد الدائم بجهلنا القديم. لكن الثلاثين، بمسامحتها المتدرجة، تعلّمك شيئًا أبسط: أن كل خطأٍ كان هو الدليل إلى الصواب، وأن الطريق الذي التفّ بك لم يكن ضياعًا، بل طريقة أخرى للمعرفة.
نحن لا نغفر للآخرين بسهولة، لكن الأصعب أننا لا نغفر لأنفسنا. والثلاثون، كما تقترحها ديوب، هي اللحظة التي تمدّ فيها يدك لنفسك القديمة وتقول: "شكرًا لأنكِ حاولتِ، رغم الألم." بهذا التصالح، تبدأ الثورة الأجمل: تلك التي تُعيد فيها كتابة سيرتك الداخلية بحبر الرضا.
وما بين هذه الخيوط الدقيقة التي تنسجها الكاتبة، يبرز خيط آخر لا يقل أهمية: التخلي. فالثلاثون، على عكس ما يظن البعض، ليست سنّ الاكتساب، بل التخفّف. تكتب ديوب: "في الثلاثين، بدأت أختار معاركي بعناية، ولم أعد أقاتل من أجل كل شيء."
ولا يعني هذا انسحابًا، بل ذكاءً وجدانيًا. لم تعد مضطرًا لأن تكون حاضرًا في كل النقاشات، أو أن تردّ على كل استهجان، أو أن تُقنع كل من لا يريد الفهم. لقد نضجت بما يكفي لتُدرك أن بعض الانسحابات لا تعني الهزيمة، بل النجاة.
توازن
إن الكاتبة ترسم الثلاثين كلحظة توازن دقيقة بين النقص والامتلاء، بين الوعي والدهشة، بين النضج والبساطة. لم تعد الأشياء تُصنّف أبيض أو أسود، بل تظهر الحياة في تدرجاتها، وأنت لم تعد تسعى للمطلقات، بل للمعنى، للسكينة، للوضوح.
ولعلّ أجمل ما في كتاب ديوب أنها لا تُمجّد هذا العمر بوصفه لحظةً مثالية، بل بوصفه مرحلة أكثر إنسانية. لا تُخفي وجود الألم، لكنها تحتفي بما ينتج عنه من بلورة للذات. ثلاثينيّتها ليست أيقونة خالية من العيوب، بل امرأة تسير ببطء، متصالحة مع خوفها، قادرة على تقبّل أخطائها، وعلى منح الحياة فرصة أخرى دون شروط.
إن تمجيد علا ديوب لهذا التحوّل ليس ادعاءً بل اعترافًا. إنها تكتب بصدق، من قلب التجربة، ولذلك يشعر القارئ أن نصوصها ليست بعيدة عنه، بل تُحاكيه، وتُشبهه، بل ربما تُعبّر عنه حين يعجز عن التعبير.
في النهاية، الثلاثون – كما تقول علا – ليست رقمًا يُقاس بسنوات، بل حالة شعورية يتعافى فيها القلب، وتستقيم فيها الروح على إيقاع هادئ، لا يُشبه أحدًا إلا أنت.
في كثير من صفحات الكتاب، تمسّ علا ديوب موضوع الجسد، لا بوصفه وعاءً للزينة، بل ككيانٍ حيٍّ يحمل آثار العيش، الخيبات، الولادات الصغيرة والكبيرة. تكتب في رقة: "في الثلاثين، لم يعد يعنيني أن أكون جميلة بالمعايير. يكفيني أن أشعر أني بخير."
إن هذا التوجه يعكس انتقالًا نوعيًا من التزيين الخارجي إلى الاعتناء الداخلي. الجسد في الثلاثين لم يعد ساحة منافسة، بل حديقة سرّية تحتاج إلى الريّ والتفهّم.
معايير الجمال
تستعيد الكاتبة علاقة النساء بأجسادهن، وتشير إلى الألم الصامت الناتج عن المقارنة والامتثال لمعايير الجمال الصناعية. لكنها لا تقف عند حدود التذمّر، بل تُحوّل الألم إلى وعي، والوعي إلى حبّ. تقول: "كل علامات التعب على وجهي تعني أني عشت. كل خطٍّ صغير هو سطر في روايتي."
هذا التصالح مع الجسد هو شكل من أشكال الثورة الهادئة التي تتيح للمرأة أن تتحرّر من نظرة الآخر، وتكتب سرديتها الجسدية بيديها، لا عبر أعين المراقبين.
أحد أكثر المواضيع رقة في كتاب علا ديوب هو الحب، ذلك الكائن المراوغ الذي تخبرنا أنه لا يُطلب بل يُعاش، لا يُنتظر بل يُولد من الداخل. تقول: "في الثلاثين، لم أعد أبحث عن النصف الآخر، بل عن من يُشبه اكتمالي."
الحب
الحب في الثلاثين، كما تصوره ديوب، هو محادثة بين ناضجين، لا صراع بين متعطشين. لا مجال فيه للدراما ولا للاستنزاف. هو استراحة نفسية في ظلّ علاقة متوازنة، لا زلزالًا يقلب الكيان. لم تعد المحبة فخًّا بل ملاذًا، ولم يعد العشق دوامة بل مرسى.
في هذه السن، تغدو الحميمية أكثر عمقًا وأقل ضجيجًا، والألفة أكثر أهمية من الإثارة. تنظر علا ديوب إلى الحب كشيء لا يُكملك بل يُرافقك، لا يُنقذك بل يُضيء بعض العتمة في طريقك. وهذه النظرة تمثّل، في جوهرها، انتقالًا من الحب الرومانسي إلى الحب الرفيق، من اللهفة إلى السكينة.
ما يميز أسلوب علا ديوب هو أنها لا تكتب بمداد الحبر بل بندى القلب. لغتها بسيطة، لكنها مشبعة بالإيحاء، تُلامس القارئ كما لو أنها كُتبت خصيصًا له. لا توجد زخارف لغوية مفرطة، بل موسيقى داخلية تنبع من صدق العبارة لا من زخرفتها.
إن تأملاتها القصيرة تتكثف لتغدو ومضات شعرية، وتفكيرها السردي يأخذ شكل المناجاة. في عبارة مثل: "في الثلاثين، عرفت أن الهدوء لا يعني الفراغ، بل الاكتفاء." نجد كيف تختزل الكاتبة فلسفة كاملة في جملة واحدة.
اللغة عند علا ديوب ليست وسيلة بل غاية. لا تسعى للتباهي بالبلاغة، بل للشفاء بها. كل نصٍّ هو رسالة داخلية، تهمس أكثر مما تصرخ، تواسي أكثر مما تقنع.
الثلاثون، كما تراها ديوب، هي لحظة مفارقة. أنت في قمة عطائك لكنك بدأت تشعر أن الأشياء تمرّ بسرعة. لديك الطاقة، لكنك تعبت من اللهاث. لديك أحلام، لكنك صرت تفهم أن بعضها خُلق ليظلّ حلمًا.
تقول: "أدركت في الثلاثين أنني لن أتمكن من فعل كل شيء، ولا بأس في ذلك." هذه القناعة البسيطة هي ثمرة نضج هائل. أن تتقبل محدوديتك لا كعجز بل كاختيار. أن ترى في التنازل حكمة لا هزيمة.
ووسط هذه المفارقات، تبقى علا ديوب وفية لنغمتها الداخلية: لا تدعو إلى المثالية، ولا تُبشّر باليأس. بل تمنح القارئ فسحةً ليتأمل أن الحياة، بكل تناقضاتها، تستحق أن تُعاش بهدوء، وبقلب غير خائف من الخسارة.
كتاب "متعة أن تكون في الثلاثين" لا يُقدم وصفة سحرية للحياة، لكنه يُعلمنا أن في البطء جمالًا، وفي القبول نضجًا، وفي الخسارات هدايا مستترة. الثلاثون ليست سنًا للندم، بل لحصاد التجربة، ولزراعة نسخة أكثر صدقًا منا.
وبلُغتها الشفافة، وعذوبة نظرتها، تُقدم علا ديوب كتابًا لا يُقرأ دفعةً واحدة، بل يُرتشف على مهل، كالخلاصات التي لا تُستعجل، كالحياة التي لا تُختزل.
وتمنحنا الكاتبة هدوءًا نحتاجه، وتُعلّمنا أن متعة الثلاثين لا تكمن في ما تحقق، بل في كيف ننظر لما لم يتحقق بعد، بعين المحبة لا بعين العتب.
إنه كتاب لا يهمس فقط في أذن الثلاثينيين، بل يروي شيئًا دفينًا في كل منّا: أن العمر لا يُقاس بالأيام، بل بدرجة الصدق الذي نحياه. وأن من يبلغ الثلاثين، لا يتقدم في العمر فحسب، بل يعود إلى ذاته – وهي رحلة، كما نعلم، تستحق أن تُسمى: متعة.


