الأربعاء 21 مايو 2025
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
العالم

في مشهد يعكس عمق المأساة الإنسانية في قطاع غزة، وجّه البابا لاون الرابع عشر نداءً مؤثراً خلال عظته الأسبوعية من ساحة القديس بطرس، ناشد فيه إسرائيل السماح الفوري بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر، واصفاً الوضع بأنه أكثر ما يثير الحزن والقلق. هذا النداء الروحي لم يكن مجرد موقف إنساني عابر، بل جاء محمّلاً برسائل سياسية وأخلاقية في ظل تصاعد الأصوات العالمية المنددة بالكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة، والتي تفاقمت بفعل حصار إسرائيلي خانق استمر أكثر من أحد عشر أسبوعاً.
رسالة البابا لم تكتف بالمناشدة الإنسانية، بل تضمنت دعوة واضحة لوقف فوري لإطلاق النار، وإطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة "حماس"، في محاولة لجعل السلام مطلباً أخلاقياً جامعاً، تتقاطع فيه العدالة مع الكرامة البشرية. إلا أن هذه الدعوة جاءت وسط واقع معقد، إذ كانت إسرائيل قد أعلنت، قبل يومين فقط، عن سماحها بإدخال المساعدات إلى غزة، إلا أن التقارير الأممية أكدت أن أياً من هذه المساعدات لم يتم توزيعها حتى اليوم التالي، ما يثير الشكوك حول جدية الالتزام الإسرائيلي بالإغاثة الفعلية، لا الشكلية.
ما يزيد من تعقيد الصورة، أن هذا النداء البابوي جاء متزامناً مع تحركات دبلوماسية متسارعة من قِبَل دول غربية بدأت تضيق ذرعاً بسلوك تل أبيب في غزة. فقد أعلنت بريطانيا، عبر رئيس وزرائها كير ستارمر، تعليق محادثات التجارة الحرة مع إسرائيل، بل واستدعت سفيرها في لندن، في خطوة سياسية نادرة تعكس استياءً متزايداً من استمرار العدوان العسكري ومنع المساعدات.
تعنت صهيوني
في المقابل، كانت الانتقادات الأشد قد جاءت من المنظمات الإنسانية العاملة على الأرض، وعلى رأسها "أطباء بلا حدود"، التي وصفت ما سمحت به إسرائيل من مساعدات بأنه "غير كاف بشكل مثير للسخرية"، واتهمتها بأنها تحاول تفادي الاتهام بتجويع سكان القطاع، عبر إبقاء الحد الأدنى من المساعدات، لا لإنقاذ الأرواح، بل للحفاظ على مستوى متدنٍّ من الحياة بالكاد يسمح بالبقاء.
تصريحات منسقة الطوارئ في المنظمة الدولية، باسكال كواسار، من داخل خان يونس، لم تترك مجالاً للتأويل؛ إذ أشارت بوضوح إلى أن القرار الإسرائيلي بالسماح بدخول كميات رمزية من المساعدات لا يعكس نية لإنهاء الحصار، بل مجرد محاولة لتخفيف الضغط الدولي المتصاعد، دون تغيير حقيقي في الاستراتيجية العسكرية والسياسية التي تُحكم الخناق على غزة.
كل هذه المعطيات تشير إلى أزمة إنسانية لا تنفصل عن أبعادها السياسية والأخلاقية. فغزة اليوم لم تعد مجرد ساحة اشتباك، بل تحوّلت إلى اختبار عالمي لقدرة المؤسسات الدولية والدينية والحقوقية على فرض كرامة الإنسان كقيمة عليا تتجاوز الحسابات السياسية. نداء البابا إذن، ليس مجرد رجاء روحاني، بل هو صرخة في وجه تقاعس عالمي، ورسالة للعالم بأن الصمت عن الحصار هو مشاركة غير مباشرة في معادلة الموت البطيء التي تُفرض على مليونَي إنسان محاصرين بين البحر والدمار.
بين الكلمات التي ألقاها البابا من ساحة القديس بطرس، والأصوات التي تعلو من أنقاض غزة، تتشكّل ملامح أزمة عالمية لا تُقاس فقط بعدد الضحايا، بل بمقدار العجز الأخلاقي في مواجهتها.