شواطئ.. الرؤية التأريخية في خُماسية مدن الملح (2) - خليج نيوز

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يتابع دكتور محمود معروف فى كتاب " الرؤية التأريخية في خماسية مدن الملح.. دراسة تأويلية " والصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بقولة: وإذا كانت بداية التغيير قد ظهرت على وادي العيون، فإن مظاهر هذا التغيير نفسها قد لحقت ب (حران)، التي شهدت بقية التغيير وذروته خصوصا بعد اختيارها لتكون مقرًا وميناء للشركة الأجنبية بعد اكتشاف ترسبات نفطية في المنطقة: ".. فبعد أن اختيرت (حران) ميناء للشركة الأمريكية، أصبحت تعج بحركة لا تعرف التوقف، حركة أقرب إلى الجنون او السحر ن فيتراكض الرجال من مكان إلى آخر، وتتراكض معهم تلك الآلات الصفراء العاتية التي ترفع التلال، وتردم البحر وتدك الأرض، تفعل ذلك دون توقف ودون رحمة، وبدأت البواخر والمراكب تنزل آلاف الرجال والأشياء التي لا يعرف ما هي أو لماذا أنزلت، وحين وصلها ابن الراشد والرجال الذين جمعهم من انحاء مختلفة من الصحراء ليكونوا عمالًا في الشركة، وجد هؤلاء الرجال أن الأجانب قد سبقوهم إلى هناك، ووجدوا حران تستعد لخلع ثوبها القديم ن فهدمت البيوت، وتحول أهلها إلى لاجئين يقيمون في مخيمهم الجديد، ولم يبق من حران القديمة سوى الجامع والمقبرة، وهكذا يظهر تأثير الحدث في المكان ن فينتفى الثبات والهدوء، ويظهر المكان قلقا قابلا للزوال. 

وهكذا تتغير (حران) تغيرًا جذريًا، وتنقطع صلتها بحران الماضي، لتتماشى مع متطلبات المرحلة الجديدة، هذا التغير الذي أصاب المكان انعكس شك على بنية المجتمع ومنظومته الأخلاقية ن فبعد أن هدمت حران القديمة ودكتها التراكتورات أقيمت حرانان، (حران العرب) و(حران الأمريكان). يعقد الكاتب بينهما مقابلة، فتظهر حران الأمريكان مدينة منظمة بمبانيها وشوارعها المعبدة، وأشجارها التي جلبت من الخارج، فأصبحت تحمل كل مظاهر المدينة الحديثة بمسابحها ومطاعمها وأنديتها، بالإضافة إلى ذلك نسائها اللائي تُجلبن  من خلف البحار، وانعكاس ذلك على المقيمين فيها حيث الراحة والطمأنينة والمرح والصخب: " ومع ان العمال العرب هم من شيدوا هذه المدينة، إلا أنه تولد في نفوسهم التهيب ثم الحذر، بخاصة وهم يشاهدون الأمريكان ينتقلون من بناء إلى آخر ويتطلعون إليهم بتعجب وتسأل وكأنهم فوجئوا بوجودهم: ماذا يفعل هؤلاء هنا ومن جاء بهم ؟ ".    

أما (حران العرب) فتبدو مناقضة تماما لحران الأمريكان، إذ تقوم حران العرب كما يقول السارد: ".. من بقايا الصناديق الخشبية الكبيرة وألواح الزنك، إضافة إلى مجموعة من الحجارة غير المنظمة، والمتفاوتة الحجم.. أما السقوف فكانت خليطا من الزنك وأقمشة الشوادر والكرتون وبقايا الأغصان التي تخلفت بعد قطع الأشجار التي كانت تميز حران من غيرها " وهو بذلك يعقد مقارنة ضمنية بين ثقافتين: واحدة تخضع للمدنية والعقل والمنطق، وأخرى تخضع للفوضى والعشوائية! بالإضافة إلى ذلك التحول والتبدل الذي أصاب الإنسان بتأثير ما حل بالمكان بفعل اكتشاف النفط، ناهيك عن عدم اختيار المكان الذي يصلح لأقامه مثل هذه المدن الكبيرة، مع مراعاة خصوصيته بجميع جوانبها، والمتأمل لوصف هذه المدن يجد أنها توحى بالتفكك وعدم الثبات، وأنها عرضة للزوال في أية لحظة، وللذوبان نتيجة أية هزة تصيب مجتمعها، بل إن بقاء هذه المدُن يجد أنها توحى بالتفكك وعدم الثبات، وإنها عرضة للزوال في أية لحظة، وللذوبان نتيجة أيه هزة تصيب مجتمعها، بل إن بقاء هذه المدن الجديدة والحياة فيها، يرتبط بالآخر الأجنبي وقوته وصناعته وفى أحيان كثيرة بوجوده. 

من المبانى التى ظهرت معادية للإنسان بشكل سافر (البركسات)، وهى مبان يقيم فيه عمال النفط الذين التقطهم " ابن الراشد " ومن ثم " الدباسى " وآخرون من أماكن مختلفة من الصحراء، ودفعوا بهم تحت إغراء الوعود الكبيرة إلى العمل فى التنقيب عن النفط، وأقاموا لهم مبان يسكنون فيها أطلق عليها " البركسات "، وقد وصف لنا السارد هذه البركسات بقذارتها وحرارتها الرهيبة وجوها الخانق، وتكدس العمال تحت سقوفها الأسمنتية الواطئة، بقوله: " فالمدينة العمالية – الواقعة بين حران العرب وحران الأمريكان – التى بدأت بثلاثة بركسات، أخذت تتسع وتكبر، فبعد أقل من شهر بنى بركس جديد، وما كادت السنة تنقضى حتى أصبح عدد البركسات سبعة عشر واحدًا، وبعد أن كان البركس يحتوى على خمسة عشر رجلا، وأصبح يضم بين العشرين والخمسة والعشرين كأنها الأفران الخانقة، فتعبق بالحرارة ورائحة العرق والنوم، وتحولت الجدران البيضاء إلى ألوان لا يمكن تمييزها، بسبب الدخان والأيدى المعروقة وأشياء أخرى". 

ونلحظ من خلال ذلك أن البركس يوحى بالدونية، لذلك جعله السارد مكانًا لسكن العمال العرب، على عمس العمال الأمريكان الذين يعيشون فى مدينة عمالية حديثة، مما جعل السارد يتسأل:" لماذا يعيشون هم هكذا ويعيش الأمريكيون بشكل آخر؟ لماذا يحرم عليهم الأقتراب من بيوت الأمريكيين أو مجرد النظر إلى برك السباحة أو الوقوف لحظات فى ظل شجرة من الأشجار؟ والأمريكيون لماذا يصرخون طالبين إليهم أن يتحركوا، أن يتركوا المكان فورًا، ويطردونهم كما تطرد الكلاب ؟، وهنا يظهر تمايز واضح بين علاقة المستغِل والُمستغَل. 

فى " مدن الملح" يوظف منيف العلاقة بين الزمن الطبيعى والزمن التاريخى للتعبير عن النسق الأساسى فى النص، أليف / معاد الذى يندرج ضمن الزمن، زمن طبيعى / زمن تاريخى، وحيث يعلن منيف جوانب عديدة من موقفه ورؤيته من خلال هذه الثنائيات ودلالاتها، فخلال صراع الزمنين تنشأ الحياة الجديدة. 

ففى الشتاء الذى أعقب دخول خريبط إلى الطريفة، يتحرك الزمن الطبيعى لإعلان موقفه من الزمن التاريخى، " فشتاء تلك السنة كان أشد برودة من سنوات سابقة وأقل مطرًا، واحتمل الناس الشتاء انتظارًا للربيع، لكن الربيع جاء بطيئا وضعيفا وانتهى بسرعة ليبدأ الصيف، الذى كان مبكرًا وكثيفًا وعكر مزاج الناس، وقد كانت السنة عكرة قاسية". أما وادى العيون الذى كان جنة الدنيا، وبعد أن دخله الزمن الترايخى ورحل أهله، وسوى بالأرض، وأصبح معسكرا للبحث عن النفط، فإن الطبيعة نفسها تغيرت، وحتى الريح التى كانت تهب فى مثل هذا الوقت من السنة طرية ومنعشة، أصبحت الآن لفحًا قاسيًا خلال ساعات النهار كلها، وبردًا ينفذ إلى العظم فى ساعات الليل المتأخرة.  

لقد أشار " عبد الرحمن منيف " فى العديد من الوقفات إلى أن الوقت قد حان لتهتم الرواية بحياة الناس العاديين من سلوكيات ولغة ومواقف ورؤى، حيث يمثلون النسبة الغالبة فى أى مجتمع ". وخير مثال على هذا النموذج فى الخامسية هو شخصية ( متعب الهذال ) نموذج البطل البدوى الشعبى الذى يلتف حوله الناس ويتخذونه قدوة، وهى تعد شخصية متطورة بالدرجة الأولى، ولم تقم بدور فعال فى تطور الحدث، بل إن تطور الأحداث هو الذى عمل على نمو تلك الشخصية وتطورها، وهى شخصية لها سمات اجتماعية خاصة، تحمل فى طايتها حسا نبوئيا يوظف فى إظهار الحدث والكشف عنه، كما يوظف فى الكشف عن أبعادها الداخلية، ومدى ارتباطها بالأرض والناس، وعلى الرغم من ذلك فهى شخصية تعانى الاغتراب والانفصال عمن حولها، فهو بطل إشكالى، حسب لوكاتش، يتحمل عبء المحافظة على القيم المجتمعية والتقاليد المورثة والدفاع عنها فى مجتمع منحط، وكأن شخصية " الهذال" هى بؤرة الوعى الجمعى الذى تمركز داخل الروح الجمعى " الفرد-الجماعة" الرافضة للقوى الخارجية الساعية لتدميرها، لذلك أفاض الكاتب فى رسمها من الداخل وقدمها تدريجيًا فى إطار الحدث. 

           وللحديث بقية 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق شركات السياحة: تدريب 2041 سائقا وتركيب 17 ألف جهاز تتبع بالأتوبيسات - خليج نيوز
التالى والد الطفل ياسين: شوفت العذاب.. وفضلت آخد حق ابنى بالقانون خليج نيوز