محمود حامد يكتب: «تاريخ أنظمة الشرطة فى مصر».. دراسة شاملة فى 15 حقبة زمنية - خليج نيوز

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

منذ وُجد الإنسان على ظهر الأرض وُجدت معه قوى الخير والشر.. الخير يتمثل أساسًا فى قواعد الأخلاق وأسس الفطرة التى فطر الله الناس عليها، أما الشر فيتمثل فى مخالفة هذه الأسس والاعتداء على هذه القواعد والخروج على الفطرة السليمة.

وحاول الإنسان الأول أن يوجد وسائل يحمى بها نفسه ضد المعتدين على هذه القواعد والأسس، وعند تكوين المجتمعات البدائية، انتقلت المسئولية فى الحماية إلى رجال القبيلة، وشيئًا فشيئًا كان يظهر أحد هؤلاء الرجال فى مظهر المحافظ على قواعد وأسس الخير ضد قوى الشر. وأصبح ذلك الشخص هو شيخ القبيلة أو زعيمها، ومع نمو هذه القبائل بدأ الاعتماد على مجموعة من الرجال للحفاظ على النظام، واحترام قواعد الأخلاق ضد المعتدين.. وكان هؤلاء هم النواة أو الصورة الأولى لوظيفة "الشرطة".

حول هذه الفكرة يدور كتاب "تاريخ أنظمة الشرطة فى مصر" الصادر عام ١٩٩٠ عن دار “الشروق”، والذى يأخذنا مؤلفه الدكتور ناصر الأنصارى فى رحلة تاريخية وقانونية وسط كم وفير من المعلومات المهمة والمثيرة أيضًا، وتكتشف خلالها أن أجدادنا قدماء المصريين أول من وضعوا أسس الشرطة والتى سار عليها جميع من حكموا مصر بعد ذلك، ولا تستغرب أن الفراعنة وضعوا ضمن تنظيمهم الموازين والمكاييل بما فى ذلك وزن الخبز أو مايعرف فى عصرنا الحالى بشرطة التموين!.

وبناء على بدايات أول شكل لظهورها، يمكن أن نقول إن الشرطة كوظيفة وُجدت منذ وجود أول تجمعات بشرية بغرض الحفاظ على قواعد الأخلاق، والفطرة السليمة، وتنفيذ النظم التى يضعها حكماء التجمعات من أجل حمايتها.

أما الشرطة كجهاز، أو كنظام، أو كمؤسسة، أى فكرة وجود قوات ذات مرتبات مكلفة بحفظ النظام ومنع الجريمة، فلا شك أنها كانت فكرة نشأت فى وقت لاحق مع تنظيم الدولة، ضمن ظهور الأنظمة الأخرى داخل الدولة.

الشرطة لغةً

يقول د.الأنصارى إن معاجم اللغة العربية اتفقت جميعًا على تفسير كلمة الشرطة بما كان يتميز به رجالها من وضع "شُرَط" وهى علامات ظاهرة تميزهم عن غيرهم، كما كان لكلمة "شرطة" معنى آخر إذ كانت تطلق على أول كتيبة فى الجيش تشهد الحرب. وفى حديث لابن مسعود قوله: "ويستمد المؤمنون بعضهم بعضًا فيلتقون وتشرط شرطة للموت لا يرجعون إلا غالبين".

أما كلمة البوليس المأخوذ بها فى لغات العالم فهى مأخوذة عن اللاتينية ويرجع أصلها إلى POLICE اللاتينية وتعنى عند الإغريق القدماء "المدينة" ولم يكن المقصود بالمدينة مبانيها وتخطيطها بقدر ما كان المقصود المدنية أو الحضارة التى تنمو فيها وتزدهر.. وبالتالى، فإن أهم ما ترتكز عليه المدينة فى نموها وازدهارها والحضارة فيها هو الأمن. ومن هنا نشأ التطور اللغوى وأصبحت كلمة POLICE تعنى جهاز الأمن الذى يحافظ على أمن المدينة. ولم تستعمل كلمة البوليس فى مصر إلا نحو سنة ١٨٦٣عندما استدعى الخديو إسماعيل الضابطين الإيطاليين كارلسيمو ونيجرى وأوكل إليهما تشكيل قوة نظامية لحفظ الأمن تحل محل طائفة (القواسة) الأتراك غير النظاميين، وفق ما ذكره إبراهيم الفحام فى دراسته بعنوان "الشرطة فى عصر الخلفاء الراشدين والأمويين" المنشورة فى العدد ١١ من مجلة الأمن العام.

الشرطة اصطلاحًا

ومصطلح الشرطة فى بدايته كان يعنى "الجند الذين يعتمد عليهم الخليفة أو الوالى فى استتباب الأمن وحفظ النظام، والقبض على الجناة والمفسدين، وما إلى ذلك من أعمال إدارية تكفل سلامة الجمهور وطمأنينتهم، وقد سجل تاريخ العرب أول تطبيق لنظام الشرطة فى عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقد أوكل التناوب فى حفظ الأمن فى المدينة إلى رجال أطلق عليهم "العسس".

أما أول استخدام لكلمة الشرطة فيرجع لعهد على بن أبى طالب الذى وضع لها نظامًا جديدًا، وحدد لها واجباتها، واختار لها رجالًا عرفوا بالتقوى والصلاح والعصبية، وكان يطلق عليهم رؤساء الشرطة، حسبما ذكر د.عطية مشرفة فى كتابه "نظام الحكم بمصر فى عهد الفاطميين".

ويقول د.حسن إبراهيم حسن، فى كتابه تاريخ الإسلام السياسى والدينى والثقافى والاجتماعى، إن الشرطة كانت فى أول الأمر تابعة للقضاء، تقوم على تنفيذ الأحكام القضائية، ويتولى صاحبها إقامة الحدود، ولكنها لم تلبث أن انفصلت عن القضاء واستقل بها صاحب الشرطة. 

ويعرف ابن خلدون فى مقدمته "الشرطة" بقوله: "كان أصل وضعها فى الدولة العباسية لمن يقيم أحكام الجرائم فى حال استبدائها أولًا ثم الحدود بعد استيفائها.. فكان يقوم بهذا الاستبداء وباستيفاء الحدود بعده إذا تنزه عنه القاضى ويسمى صاحب الشرطة وربما جعلوا إليه النظر فى الحدود وإفرادها من نظر القاضى".

وكان منصب صاحب الشرطة من أجلّ مناصب الدولة وأعظمها وأرفعها مكانةً، وكانت الشرطة أحيانًا طريقًا نحو الوزارة حتى أن الخليفة أبا جعفر المنصور كان يقول: "ما أحوجنى أن يكون على بابى أربعة نفر لا يكون على بابى أعف منهم أركان للدولة، لا يصلح المُلك إلا بهم: أما أحدهم فقاضٍ لا تأخذه فى الله لومة لائم، والثانى صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوى، والثالث صاحب خراج يستقصى ولا يظلم الرعية، والرابع صاحب بريد يكتب أخبار هؤلاء على الصحة". وهذا الرأى لأبى جعفر المنصور يدل على الأهمية التى يوليها الحاكم لصاحب الشرطة إذ يعتبره من أركان الدولة.

فى العصر الحديث

يقول الدكتور ناصر الأنصارى إن مهام جهاز الشرطة فى كل مكان تكاد تكون واحدة وموحدة، وهى حفظ القانون والنظام، ومنع الجريمة وضبطها عند وقوعها، وتقويم وإصلاح المجرمين.. ومع التقدم الحضارى والعمرانى، أضيفت إليها مهام أخرى مثل البحوث الجنائية وتنظيم السجلات الجنائية، وتنظيم حركة المرور وسير المركبات فى الطرق للحفاظ على حياة المواطنين.. وفى الجانب السياسى، فإن الشرطة لها مهام أخرى فى ملاحظة نشاط التجمعات غير القانونية أو المشتبه فى قيامها بأعمال خارج إطار القوانين والشرعية، وضبط الجرائم التى تنبع من باعث سياسى. وكلما قل تدخل الشرطة فى حياة الفرد العادى فى دولة ما، دل ذلك على أن الديمقراطية مطبقة فى تلك الدولة، فالتناسب بين سلطات الشرطة على حياة الأفراد العاديين وبين الديمقراطية فى بلدٍ ما هو تناسب عكسى.

\مصر الأقدم

يكاد يجزم العلماء أن مصر أقدم دولة فى العالم، ويقصد بالدولة هنا الدولة بمفهومها القانونى بعناصر الثلاثة: أرض محددة، يعيش عليها شعب معين، وتحكمه حكومة.. فعلى مدى أكثر من خمسة آلاف عام وُجدت مصر بحدودها الجغرافية المعروفة الآن تقريبًا، وعليها شعب، وكانت لها حكومة دون انقطاع فى أى من حقب التاريخ.

قد يكون هناك شعوب أو قبائل شكلت حضارات أخرى سبقت الحضارة المصرية القديمة ووجدت فى أماكن أخرى من العالم، ولكنها مثار شك وفق المنطق العلمى البحت، لأنها لم تترك لنا أية آثار مكتوبة سواء على برديات أو على جدران المعابد.

أما الحضارة المصرية فقد وصلت إلينا اعتمادًا على نصوص مكتوبة وسجلات مدونة على البرديات أو على جدران المعابد. ومن هذه النصوص والسجلات تمكن المؤرخون من دراسة الدولة المصرية القديمة وهيئاتها ونظمها وموظفيها واختصاصاتهم، وكانت الشرطة من بين هذه الأنظمة الجديرة بالدراسة.

وقد نحا البطالمة (الذين خلفوا الفراعنة فى تولى أمور الحكم فى مصر) نفس منحاهم من حيث تسجيل الأحداث والأنظمة المهمة. وتتابع تسجيل حكام مصر فى العصرين الرومانى والبيزنطى بطريقة تقليدية. ومع التطور التاريخى دخلت مصر فى العصر الإسلامى وشهدت انتقال الحكم من الخلفاء الراشدين إلى الأمويين ثم العباسيين والعثمانيين فيما بعد، وذلك بخلاف الأوقات التى كانت فيها مصر تتمتع بشبه استقلال عن دولة الخلافة مثل العصر الطولونى والعصر الإخشيدى والعصر الأيوبى أو التى كانت فيها مصر دار خلافة مثل العصر الفاطمى أو العصر المملوكى عندما تمت استضافة الخليفة العباسى فى القاهرة بعد انهيار عاصمتهم بغداد وإلى قيام الدولة العثمانية.

فى كل حقبة من هذه الحقب التى مر بها التاريخ المصرى وُجدت نظم واضحة إلى حدٍ ما، ومن النظم التى ظلت لها قوة وأهمية نظام الشرطة الذى يمكن أن تجد سلسلة متتابعة محكمة تربط حلقاته معًا على مر التاريخ.

وقد قسم المؤلف التاريخ المصرى الطويل إلى شرائح بلغت خمس عشرة شريحة، بدءًا من الفراعنة وانتهاء بالعصر الجمهورى، وخصص للشرطة فصلًا مستقلًا فى كل حقبة من تلك الحقب، تناول خلاله الشرطة كجهاز وتكوينه وتشكيله ومسئولياته، والشرطة كمهام موكلة إليها وكيفية ممارستها لمهامها.

العصر الفرعونى

شهدت المجتمعات المصرية المتفرقة التى سبقت قيام الدولة المصرية الموحدة فى عصر موحد القطرين مينا، وجود أفراد يوكل إليهم أعمال الشرطة، وبقدر براعة الفراعنة فى العلوم والفنون المختلفة، كانت أيضًا براعتهم فى تنظيم هيكل الدولة ونظمها بصفة عامة، وبطبيعة الحال كانت الشرطة من النظم التى أولاها الفراعنة اهتمامًا من حيث بيان اختصاصها وأهمية من يتولاها، رغبةً فى استقرار المجتمع وحماية الأفراد والممتلكات.

وتكون جهاز الشرطة من الوزير وكانت له مسئوليات محددة ذكرها الدكتور سليم حسن فى الجزء الرابع من كتابه "مصر القديمة" إذ وجدها كنص على جدران مقبرة الوزير "رخ مى رع" فى عهد تحتمس الثالث، وأهمها: المحافظة على المؤسسات العامة، وإعداد سجلات العاملين، وتلقى تقارير موظفى الإدارات فى منطقة عملهم كل أربعة شهور، وحراسة الفرعون، واتخاذ الإجراءات المناسة إزاء الحوادث المهمة.

ويأتى بعد الوزير، رؤساء الشرطة وكان يتم اختيارهم من المعروفين بالذكاء وسعة الأفق، ولكلٍ منهم مهام تتحدد حسب طبيعة المنطقة. وكان لرئيس شرطة طيبة مكانة خاصة لما تشتمل عليه من معابد ومقابر ولوجود العمال الذين يقومون بنحت المعابد وتزيينها، كما كان لرئيس شرطة قفط مكانة مهمة لأنها كانت تقع فى طريق جلب الذهب من وادى الحمامات، وكان على اتصال وثيق مع مدير مناجم الذهب هناك. ونظرًا لامتداد الأرض الصحراوية فى مصر فقد اهتمت الدولة وعينت رئيسًا لشرطة الصحراء لحراستها من المعتدين وتعقب الفارين.

ويأتى بعد ذلك رجال الشرطة وكانوا يتوزعون بين الشرطة المحلية التى تقوم بحفظ الأمن والنظام فى المدن الكبرى مثل طيبة وقفط المجاورة لقوص ومنف وتل العمارنة، والحرس الملكى، وشرطة المعابد، وشرطة حراسة المقابر، ونظرًا لما مرت به مصر من مؤامرات، فقد اهتم الفراعنة بتأمين البلاد من الداخل فوجد جهاز يمكن تسميته بلغة العصر جهاز أمن الدولة، ولأن نهر النيل كان الوسيلة الرئيسية لنقل البضائع والأفراد فاستلزم ذلك عناية الحكومة المركزية لتوفير الأمن فى هذا الشريان الحيوى الطويل فتكونت الشرطة النهرية.

وفى عصر الفرعون أمنحوتب الثالث انتشرت القرصنة فى حوض البحر المتوسط فعين الفرعون حراسة للسواحل المصرية.

وإلى جانب ذلك، كانت للشرطة مهام أخرى، من بينها المعاونة فى جمع الضرائب ومراقبة ضبط المكاييل والموازين ومراقبة أوزان الخبز أيضًا.

مجتمع منظم

ما كل هذا التنظيم؟.. نحن إزاء مجتمع منظم بشكل يفوق الوصف.. فالصورة التى عرضها الدكتور الأنصارى فى كتابه المهم للشرطة فى  عهد قدماء المصريين، تمثل بلا أدنى مبالغة الصورة التى صارت عليها الشرطة فى كل العهود سواء فى مصر أو فى غيرها من البلدان.

ونقرأ فى الكتاب، عن الشرطة فى العهود التى تلت العصر الفرعونى، فنكتشف أنها تسير على المنوال نفسه، مع فروق بسيطة، اعتبارًا من عصر البطالمة، الذى لم يختلف فى نظام شرطته رغم أن رجال الشرطة فى أول ذلك العصر كانوا من الإغريق ثم أُفسح المجال تدريجيًا للمصريين.

ثم جاء الرومان فاقتفوا أثر نظام البطالمة فى تنظيم الشرطة والمأخوذ من النظام الفرعونى، إلا أنهم لجأوا إلى نظام مختلط يجمع بين شرطة مدنية ومسلحين من الجيش.. وأعلن الرومان ضم مصر للإمبراطورية الرومانية، حيث كانت مصر تتمتع بثروة طائلة خاصةً لروما التى كانت تعيش على قمح بلادنا منذ وقت طويل.

العصر الإسلامى

ويرصد المؤلف بعد ذلك تاريخ الشرطة فى العصر البيزنطى ثم يتناول الشرطة فى أعقاب الفتح الإسلامى، فيذكر أن منصب صاحب الشرطة فى عهد الخلفاء الراشدين فى مصر كان منصبًا رفيعًا ويعتبر نائبًا للوالى، تُسند إليه أمور الحكم أثناء مرض الوالى أو سفره.. وروى أن "خارجة بن حذافة" صاحب شرطة مصر كان يحل محل عمرو بن العاص فى جميع أعباء الحكم أثناء مرضه.

ولما فتح العرب مصر عملوا على حماية أهلها من العناصر الأجنبية الدخيلة ومن الجناة سفاكى الدماء، فنشروا رجال الشرطة فى كل مكان لحماية الأهالى وأسسوا للشرطة دارًا فى الفسطاط بجوار دار الوالى.

ويواصل المؤلف بعد ذلك رصد نظام الشرطة فى العصر الأموى وفى عهد الدولة العباسية والدولة الطولونية والأخشيدية والفاطمية والأيوبية وفى عهد المماليك والدولة العثمانية وفى عهد محمد على وأسرته ثم العهد الجمهورى.

ويشير إلى أن أول قانون خاص بنظام هيئات البوليس (أو الشرطة) واختصاصاتها كان القانون رقم ١٤٠ لسنة ١٩٤٤، بعد أن كانت اختصاصات الشرطة موزعة بين نصوص مختلفة.

ولا يبقى سوى أن نتوجه للشرطة المصرية ولكل فرد من أفراد شرطتنا الأبطال بتحية حب وتقدير فى يوم عيدهم الذى تفخر به مصر.. وتحية إلى أرواح شهدائنا الذين بذلوا أرواحهم من أجل أمن الوطن والمواطن.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق