لا شيء يجعل المعنى ممكنا في الديوان الثاني للشاعر علي المازمي "حيث تجلس أيامي الميتة" الصادر حديثا عن دار المتوسط، سوى رغبة الذات الشاعرة العارمة في مخالفة الأدوات الشعرية التي اعتادت أن تجعل المعنى ممكنا، لتتشكل بهذه القطيعة -قطيعته لمؤسسة الشعر العربي- بنية تتحكم في النص، فلو كانت قصيدة النثر المعاصرة تهتم بتصوير أدق تفاصيل الواقع المعاش، فالمازمي يعود بقصيدته النثرية إلى أيام الرومانسيين فيدير ظهره للواقع ويولي وجهه شطر طوفان من الأخيلة يُغرق به هذا الواقع، بشبكة طرقه المعقدة وشبكة اتصالاته الرقمية والأموال الساخنة التي تشكل حركة التجارة في اقتصاده.
إن القطيعة لمؤسسة الشعر العربي تتجلى في أبسط الأشياء في قصيدة المازمي، ابتداء من رسم القصيدة على الصفحة البيضاء، فيرسم أكثر القصائد غنائية -في ديوانه ذي الـ 42 قصيدة- بنظام الأسطر الممتدة أفقيا الذي يُكتب به الجوابات والفرمانات السلطانية، وكأن التكوين الرأسي لرسم القصائد على الصفحة البيضاء بشطراتها القصيرة ودفقاتها الشعورية لم يعد مجديا عنده.
ففي قصيدة عالية الغنائية مثل "يا عزرائيل ليس الآن" يستعيد المازمي صخب الموسيقى من جديد في القصيدة النثرية. فليست الموسيقى عنده وزن وقوافي وروي، ولكنها نظام يمنح الحرية للمتلقي في إضفاء وزنه الخاص ورويّه الخاص للنص، فلكل متلق قلب يدق بانتظام، يقول المازمي في "يا عزرائيل ليس الآن": "لك أن تتصوري، قلبي كاد يتحطّم البارحة، وتخللت جلدي شظايا الخذلان" ثم يكرر "لك أن تعرفي الآن" ثم يكرر مجددا "لك أن تتصوري" ثم يقول "لك الآن أن تدخلي في اضطرابي" إن تلك العبارة الإنشائية "لك أن..." تلعب لعبة تشبه القفلات المؤقتة في بناء الجمل في ألحان المقطوعات الموسيقية، فرغم أن القصيدة مكتوبة بنظام الأسطر الممتدة أفقيا، إلا أن تلك التكرارات تحدث توترا في عين القارئ وأذنه حيث يستطيع أن يتلقى القصيدة كدفقات وكأنها مرسومة بالتكوين المعتاد لرسم القصائد على الصفحات البيضاء.
إن التوتر الذي يخلقه المازمي يمتد أيضا ليهز أركان الهيرمينوطيقا، فإذا استخدمنا منهج الهيرمينوطيقا لنفسر به جملة شعرية في هذا الديوان، ولتكن مثلا تلك الجملة: "أنزف وأنزلق على دم الخسارة. لك أن تعرفي الآن، وأنا على الأسفلت، روحي طلت بتردد من نافذة الحياة، على ارتفاع عشرين سنة تقريبًا. هل تقفز وتنتهي أم أن لها جناحي جنَّة؟!". فالفعلان أنزف وأنزلق يطرحان علامتي استفهام من المفترض أن تكون إجابتهما متوقعة؛ ماذا ينزف؟ الإجابة البديهية الدم، وعلى أي شيء ينزلق؟، الإجابة الطبيعية على الأرضية، لكن بإكمال الجملة نفاجئ أنه ينزلق على الدم (كيف هذا؟!) لكن المازمي يرجئ الإجابة المتوقعة إلى جملة أخرى في موقع آخر ليس له أية علاقة بالجملة السابقة، فيقول "وأنا على الإسفلت" والإسفلت هو الإجابة البديهية لعلامة الاستفهام الثانية، لكنه يرجئها لجملة أخرى ليست لها علاقة بالجملة الأولى. أنه يستخدم التوتر ليدق مسمارا في نعش المنطق، وكأن لا شيء في هذا العالم منطقي.
ينكر المازمي فكرة البدايات، إن البداية عنده شيء زائف اخترعه الإنسان ليعبر به عن جبنه من هذا الفراغ الشاسع الواسع الموحش، يقول المازمي في بداية قصيدته: "لك أن تتصوري، قلبي كاد يتحطّم البارحة، وتخللت جلدي شظايا الخذلان. من الخارج والداخل هذه المرّة" إن عبارة هذه المرة تدل على أن القصيدة مقتطعة من سياق درامي، فالعبارة تؤكد أن هذا السطر ليس بداية القصيدة بل تسليط ضوء على جزء من مجرة قوامها مشاهد الخذلان.
يستمر المازمي في شن حربه على سلطة المعنى، فيكرر نفس المدلول بدوال مختلفة، ففي قصيدته "أقاصيص الأماني"، يقول: "منذ البارحة وأنا مرتبك أمام السماءِ، خَجِلٌ مِن مَدٌ ذِراعَيَّ، أَتَأَوَّهُ سَرًَّا خلف الوجود، أكتب أماني في قصاصات صغيرة، أعطيها لأطفال الحارة، يقرؤونها على السماء تمطر الدنيا، والأمنيّات تسيل على الورق، ما زلتُ أترقبه؛ على فراشه، ملقى كروحي الخائرة... إلهي، كُفَّ عنا محبة الموت". فيستخدم هنا مفردة الأقاصيص ومفردة الأوراق ليدلان على نفس الشيء ثم يجسم الأوراق بمفردة تتسم بها، -وهذا شيء غريب- وهي مفردة الفراش، فالأوراق في حد ذاتها فراش، إذ يتم استخدامها أحيانا لفرش الموائد والأرضيات، فكيف يكون للشيء الذي يفرش فراش؟، إنه الخيال الذي يهاجم الخيال نفسه.
يظهر المازمي أحيانا بالمصاب بفوبيا التصوف، ففي نص "لو رفع اليتامى صور أمهاتهم" يسعى الشاعر لتجسيد اللفظ الحسي المجرد وتحويله لشيء مفهوم، فالإله يخرج من عالمه المثالي ويصبح له وجه يثور الأطفال أمامه شاهرين صور أمهاتهم.
تتحول الصور الشعرية للمازمي في قصيدة "لو رفع اليتامى صور أمهاتهم" إلى تروس ضخمة تربط جسد النص المشهدي: "يرغبون بنبية أم بديانة ثدي جديدة"، "السماء ألقت الخاتم منذ زمن"، "السماء تمطرهم".
كما تتعدد أصواتها: صوت يصف مشهد لثورة الأطفال، وصوت يعقب على الوصف بمجموعة أسئلة وصوت يصف مشهدا للراوي وهو يروي مشاهده، ومشهد يظهر فيه صوت الأنا الراوية ليشارك الراوي في المشهد الذي يصفه، فهذه قصيدة تدور حول نفسها تبدأ بمشهد للحليب والأطفال وتغلق بنفس المشهد. فمن 150 كلمة غزلت هذه الأصوات قصيدة بأسلوب المونتاج النصي حيث كل صوت جديد يكشف عن نقلة بصرية، ويأتي القطع عنيفا فقد تمسح المشاهد بعضها البعض ثم تتضفر في مشهد الخاتمة الذي يمسحها جميعا.
وفي قصيدته "محاولات" تتدرج المشاهد: الصوت يبدو واحدا لكن الحالة هي ما تتغير، فيبدأ المشهد الأول في الماضي ليعبر عن قدرات غير طبيعية يتمتع بها الراوي، بينما المشهد الثاني يتحول إلى المستقبل ويبدو الراوي رومانسيا، أما الثالث فينتقل إلى أسلوب إنشائي آمر ليلامس به واقعا مسحورا.
أما في قصيدته "نأي الثعالب" فاعتمد على المفارقة، مفارقة النأي والناي وعلاقة تشابه الألفاظ بتقارب المفاهيم والمفارقة تعكس تقنية مستخدمة في فن الخطابة، وهذا النص أيضا يقوم على فكرة زعزعة منطقية الجملة، فتأتي أفعال تصف الحركة بعد أسماء تصف الحركة أيضا: "قفزة لا تسقط".
أما في قصيدته "النائم"، فهنالك معركة حول مفهوم الشعر ذاته بينما قصيدة "أقبض على ظل" تفرض علينا فرضا الوقوف عند تيمة الظل: "ظل السماء" و"ظل النجمة"، والظل رمز يلعب عليه المازمي منذ انطلاقته الشعرية الأولى في ديوانه الأول "قبر الغراب".
ولا ينبغي أن نتجاهل الإشارة إلى سردية الأشياء في قصيدة "يقظة الملح" والبناء المتماسك المعقد في قصيدته "يربي سبعة أخوات في جرحه".
لم يتخل المازمي في ديوانه الثاني عن رومانسيته الغامضة التي أسسها في ديوانه الأول "قبر الغراب" لكنه بدا أكثر شراسة فيما يتعلق بتفكيك مركزية المعنى، وبدا أكثر عصيانا فيما يتعلق بـ"آتيكيت" مؤسسة الشعر العربي.
0 تعليق