ما كشفته صحيفة التليجراف الأمريكية وأكده لاحقا وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت ظهر الخميس، حول توقيع اتفاق المعادن مع أوكرانيا، يؤكد النزعة الاستعمارية الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية تحت إدارة ترامب.
الخطة، التي أطلق عليها إعلاميًا "صفقة المعادن"، تتجاوز مجرد السيطرة على الموارد الطبيعية، لتمتد إلى إعادة تشكيل ملامح أوكرانيا اقتصاديًا وسياسيًا، في اتفاق لا يبدو بعيدًا عن أسوأ نماذج الاستعمار المقنَّع في التاريخ.
جوهر الخطة يتمثل في إنشاء "الصندوق الأمريكي-الأوكراني لاستثمارات إعادة البناء" والذي سيصبح الأداة الرئيسية لواشنطن للهيمنة على كل ما تختزنه الأرض الأوكرانية من معادن وبترول وغاز، وحتى البنية التحتية المرتبطة بهذه الثروات.
الصندوق سُيسجل في "ديلاوير الأمريكية" وإن كان يخضع لقوانين نيويورك، ويتكون مجلس إدارته من خمسة خمسة أعضاء، ثلاثة منهم تعيّنهم الولايات المتحدة، ما يعني أن أوكرانيا مجرد "شريك شكلي" في إدارة مواردها.
أما توزيع الأسهم، فتم تقسيمها إلى فئتين: الفئة A للأمريكيين، والفئة B للأوكرانيين، في تقسيم يرسخ التبعية أكثر من الشراكة، ويؤكد طبيعة الاتفاق الذي يقنن نهب الثروات الأمريكية تحت مسمى إعادة الإعمار.
الاتفاق ينض على أن تذهب الأرباح بالكامل إلى الولايات المتحدة في البداية، حتى تتمكن أوكرانيا من سداد ديونها العسكرية لواشنطن، مضافًا إليها فائدة بنسبة 4%، لسداد تكلفة الدعم الأمريكي لأوكرانيا طوال فترة الحرب الروسية التي دفعتها إليها أمريكا دفعا، وقامرت بها واستخدمتها لاستنزاف روسيا.
الآن كييف مطالبة برد تكاليف ما حصلت عليه. واحدة من أكثر البنود خطورة هي احتفاظ الولايات المتحدة بحق الفيتو الدائم داخل الصندوق، بحيث لا تستطيع أوكرانيا الاستفادة من مواردها أو إشراك أي طرف آخر دون موافقة الأمريكيين. أي أن كييف لن تكون حرة في عقد اتفاقيات مع دول أخرى للاستثمار في مواردها، حتى لو كان ذلك لصالحها اقتصاديًا وسياسيًا.
الولايات المتحدة فرضت بموجب هذا الاتفاق المجحف الذي سيتم توقيعه قريبا نفوذها على جميع أوجه البنية التحتية المرتبطة بالموارد الطبيعية في أوكرانيا، من الطرق البرية والسكك الحديدية، إلى الموانئ وخطوط الأنابيب ومعامل التكرير.
بعبارة أخرى، تحركات أوكرانيا الاقتصادية ستظل رهينة المصالح الأمريكية، حتى بعد انتهاء الحرب لتتحول أوكرانيا فعليًا إلى مستعمرة اقتصادية أمريكية، تدار قراراتها من واشنطن.
الاتفاق ينص كذلك على أن الولايات المتحدة تحتفظ بأولوية الاختيار في أي مشروع أوكراني، ولا يحق لكييف تجاوز هذه القاعدة إلا إذا قرر الطرف الأمريكي ذلك. كما يمنح واشنطن حق إلغاء الاتفاق أو فسخه في أي وقت تشاء، بينما لا تملك أوكرانيا هذا الحق، ما يجعلها حبيسة شروط مجحفة لا يمكنها الخروج منها.
رغم كل الامتيازات التي يوفرها الاتفاق للجانب الأمريكي، لا يشترط أي ضمانات عسكرية أو أمنية أمريكية لحماية أوكرانيا ضد روسيا، ما يعني أن كييف ستظل وحيدة في مواجهة موسكو! القوة العظمى لا تساوم.. بل تملي شروطها! الاتفاق بهذه الصورة يعيد إلى الذاكرة "معاهدة نان كينج" التي فرضتها بريطانيا على الصين عام 1842 بعد حرب الأفيون، والتي منحت لندن امتيازات تجارية هائلة وسيطرة على هونج كونج، فيما عرف في الذاكرة الصينية بـ"قرن الذل"، وهي الفترة التي شهدت فيها الصين استنزافًا اقتصاديًا وسياسيًا طويل الأمد ومعاهدة "نان كينج" وقعتها الصين تحت تهديد المدافع البريطانية، ولم تكن معاهدة بقدر ما كانت وثيقة استسلام فرضتها الإمبراطورية البريطانية على سلالة "تشينج" الحاكمة، بعد أن أنهكتها حرب الأفيون الأولى.
وجدت بريطانيا - في ذروة مجدها الاستعماري - نفسها أمام مشكلة اقتصادية حقيقية: الميزان التجاري مع الصين كان مختلا لصالح الإمبراطورية الشرقية. الصين تبيع الشاي والحرير والخزف إلى الأوروبيين، لكنها ترفض استيراد أي شيء منهم، والنتيجة كانت أن الفضة البريطانية تتدفق إلى بكين دون عودة، مما خلق أزمة مالية خانقة في لندن.
ماذا يفعل المستعمر البريطاني الإمبراطوري للتغلب على هذه المعضلة؟ أغرق السوق الصينية بالأفيون، الذي كانت تزرعه بريطانيا في مستعمرتها الهندية، لتخلق سوقا استهلاكية كبيرة لسلعة قابلة للإدمان، لضمان أن يدفع الصينيون يدفعون الفضة بالمقابل.
عندما قررت الحكومة الصينية وقف استراد الأفيون، كان الرد البريطاني عسكريًا، فيما عُرف بـ"حرب الأفيون الأولى"(1839-1842)، والتي انتهت بسحق الأسطول الصيني وفرض المعاهدة المذلة.
حصلت لندن على امتيازات تجارية ضخمة وتعويضات مالية بعد انتصارها في الحرب، فضلًا عن ضم هونج كونج المثال الأكثر حضورًا على مستوى النهب الاقتصادي المقنن بالاتفاقات الدولية تجسده معاهدة فرساي 1919، التي وضعت ألمانيا تحت طائلة ديون مستحيلة السداد بغرض عقابها على إشعال الحرب العالمية الأولى من ناحية، وتحميلها كل تكاليف الحرب من ناحية أخرى، ما أدى إلى خلق أزمة اقتصادية خانقة أدت مباشرة إلى صعود النازية ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية.
الحرب العالمية الثانية أنتجت بدورها النظام العالمي الجديد الذي سمح للولايات المتحدة بنهب موارد العالم بأدوات كثيرة منها سياسة العقوبات وظاهرة "الدولرة" وأشياء أخرى، على مدار 80 عاما كاملة، إلى أن وصل ترامب للبيت الأبيض بنهجه المادي الاستغلالي، وجشعه الاقتصادي، ورؤيته الكارثية لإدارة الاقتصاد العالمي لصبح السؤال: هل تنجح الولايات المتحدة بالفعل في إعادة إنتاج نموذج جديد للاستعمار الاقتصادي ولو بأدوات أكثر تعقيدًا، أم تعود بالعالم للحظة الانفجار مرة أخرى؟
أخبار متعلقة :