في عالم يظن البعض فيه أن الأطفال محاطون بالأمان والحماية، تتوالى الجرائم التي تكشف أن الطفولة أصبحت مهددة داخل الأسرة والمدرسة والمجتمع بأكمله وأن حوادث التحرش بالأطفال لم تعد استثناءا نادرًا بل باتت كارثة يومية تخترق القيم والأخلاق وتدق أبواب كل بيت دون استئذان.
شهدت محافظة الفيوم واحدة من أبشع الجرائم حين أقدم رجل على الاعتداء الجنسي على ابنة شقيقه الطالبة بالصف الثالث الإعدادي حتى حملت منه سفاحًا بمساعدة عمتها التي سهلت عملية الإجهاض لإخفاء الجريمة مما يدل على أن الخطر قد ينشأ في أحضان العائلة نفسها التي يفترض أن تكون الحاضنة الأولى للأمان والرعاية.
وفي دمنهور، كانت المأساة أكبر حين تعرض الطفل ياسين البالغ من العمر ست سنوات لتحرش جنسي متكرر من موظف إداري بالمدرسة بمساعدة الدادة التي كانت تتواطأ على جريمة هتك العرض داخل المدرسة في الحمام وفي الجراج بينما كانت الإدارة تصم آذانها وتتستر على الكارثة مما يؤكد أن صمت المؤسسات التعليمية هو مشاركة في الجريمة لا يقل خطورة عن الفعل ذاته.
أما في منطقة الهرم فقد تم الكشف عن جريمة صادمة ارتكبها أب تجرد من كل معاني الأبوة حين اعتدى جنسيًا على ابنته القاصر لمدة عام كامل داخل شقته الخاصة إلى أن انتبهت الأم المكلومة وحررت بلاغًا فضح الجريمة البشعة أمام جهات التحقيق.
تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن نحو 20% من الأطفال في مصر قد تعرضوا لشكل من أشكال العنف الجنسي وفقًا لتقارير المركز القومي للطفولة والأمومة، كما تشير دراسات حديثة أن 9% من الأطفال تعرضوا للتحرش الجسدي في طفولتهم وأن أكثر من 70% من حالات الاعتداء تتم بواسطة أشخاص معروفين للطفل سواء كانوا من أفراد العائلة أو من المحيطين به مما يجعل الجريمة أكثر خفاءً وصعوبة في الكشف.
في هذا السياق، كان لمسلسل «لام شمسية» دور حاسم حين ألقى الضوء على واحدة من أكثر القضايا حساسية وإيلامًا من خلال تسليط الكاميرا على قصة طفل يتعرض للتحرش داخل المدرسة وكيف تعاملت الأسرة والمجتمع مع الكارثة حيث كسر المسلسل حاجز الصمت المجتمعي وعبر بصدق عن معاناة الضحايا وأوجاعهم ليكون بذلك ناقوس خطر حقيقيًا وإنذارًا لكل أسرة ومؤسسة بضرورة الاستفاقة من الغفلة.
لقد كشف المسلسل عن حجم الألم الذي يتعرض له الطفل المغتصب عن شعوره بالذنب والعار رغم كونه ضحية، عن الخوف الذي يكبله والصمت الذي يقتله، عن الإهمال الذي يزيد من جراحه اليومية في مجتمع يخاف من الفضيحة أكثر مما يخاف من الجريمة نفسها.
علم النفس يؤكد أن ضحايا التحرش من الأطفال معرضون للإصابة باضطرابات ما بعد الصدمة والقلق المزمن والاكتئاب العميق وضعف الثقة بالنفس، وقد يصل الأمر إلى ميول انتحارية إذا لم يتم التدخل العلاجي السريع مما يحتم على الأسرة أن تكون الحضن الآمن الذي يحتوي الطفل ويوفر له الدعم النفسي الكامل دون لوم أو عقاب.
الحل لا يكمن فقط في إدانة الجريمة بل في الوقاية منها بتوعية الأطفال بحقوقهم في أجسادهم وتعليمهم الصراحة والجرأة على الرفض والصراخ عند أي تعدٍّ حتى لو جاء من أقرب الأقربين وبناء جسور من الثقة تجعل الطفل لا يخشى الحديث عما يتعرض له في أي وقت.
وعلى المؤسسات التعليمية أن تتحمل مسؤولياتها بجدية عبر فرض رقابة صارمة وتدريب العاملين على حماية الأطفال وعدم التساهل مع أي شكوى أو إشارة خطر وعلى المجتمع أن يتخلص من ثقافة العار التي تصم الضحية وتصمت على الجاني، وعلى الدولة أن تفرض عقوبات مشددة على كل من يثبت تورطه في أي جريمة تحرش بالطفل وألا تتساهل مع أي محاولة للتستر على الجريمة.
إن حوادث التحرش بالأطفال التي تتكشف يومًا بعد يوم هي جرس إنذار لكل بيت ولكل مدرسة ولكل مؤسسة ولكل مسؤول بأن حماية الطفل لم تعد ترفا بل هي ضرورة مصيرية تحدد شكل المستقبل وأن مسلسل «لام شمسية» كان بداية الطريق نحو كشف الغطاء عن الجراح الدفينة لكنه لن يكون النهاية مالم يتحرك الجميع لنجعل من مصر وطنًا آمنًا لكل طفل يعيش فيه دون خوف أو ألم أو خيانة.
ينشأ شعور الطفل بالأمان عندما يشعر أن بيته هو المكان الذي يستطيع أن يلجأ إليه بلا خوف من العقاب أو السخرية ويتحقق ذلك من خلال الإصغاء الكامل دون إصدار أحكام وتشجيع الحوار اليومي الذي يتجاوز الأسئلة التقليدية عن الدراسة ليشمل المشاعر والأحداث اليومية والحرص على احترام مخاوف الطفل مهما بدت بسيطة أو غير منطقية من وجهة نظر الكبار.
تعليم الأطفال خصوصية أجسادهم خطوة حيوية لحمايتهم من أي اعتداء جسدي حيث تؤكد دراسات علم نفس النمو أن الأطفال الذين يتعلمون مبكرًا أن أجسادهم ملك لهم وحدهم يكونون أكثر قدرة على حماية أنفسهم من التحرش.. يجب تعليم الطفل أن هناك مناطق في جسده لا يحق لأحد لمسها أو رؤيتها مهما كانت قرابة هذا الشخص له كما يجب تدريبه على قول كلمة لا بحزم ووضوح والاستغاثة والهرب والصراخ دون خجل أو خوف حتى لو كان المعتدي من الأقارب مثل عم أو خال أو أخ أو جار أو معلم.
قد لا يتمكن الطفل دائمًا من التعبير عما تعرض له بكلمات واضحة لذلك يجب على الأم الانتباه إلى العلامات غير المباشرة التي قد تظهر مثل التغيرات المفاجئة في السلوك كالانعزال أو نوبات الغضب أو الخوف أو التراجع الدراسي أو الكوابيس المتكررة أو الشكوى من آلام جسدية غامضة خاصةً في منطقة الحوض أو المعدة دون سبب عضوي واضح أو حديث الطفل عن موضوعات جنسية لا تتناسب مع عمره ويجب عدم تجاهل هذه العلامات لأنها قد تكون إشارات استغاثة صامتة.
عند اكتشاف تعرض الطفل لأي نوع من أنواع التحرش ينبغي على الأم أن تتحلى بالهدوء الكامل وعدم الانفعال أمامه حتى لا يشعر بالذنب أو الخوف ويجب طمأنته أنه بريء تمامًا وأنه تصرف بشجاعة بإبلاغها بما حدث ثم احتضانه ودعمه نفسيًا بشكل فوري مع التوجه إلى السلطات المختصة لحمايته قانونيًا وطلب المساعدة من متخصص نفسي للأطفال لمساعدته على تجاوز الصدمة دون أن تترك آثارًا طويلة الأمد.
بناء علاقة صداقة حقيقية مع الأبناء هو السلاح الأقوى لحمايتهم من التحرش إذ يجب تخصيص وقت يومي للحديث الشخصي مع كل طفل واحترام مشاعره ومشاركته في بعض القرارات العائلية بما يعزز ثقته بنفسه وتجنب العقاب القاسي أو الإهانة بأي صورة والتأكيد المستمر على أن حب الأهل له غير مشروط ولا يرتبط بسلوكه أو أخطائه.
علم النفس يؤكد أن تعرض الطفل للتحرش دون تدخل علاجي مناسب قد يؤدي إلى مضاعفات نفسية خطيرة تشمل اضطرابات القلق والاكتئاب واضطرابات الشخصية واضطرابات ما بعد الصدمة وقد تمتد آثاره إلى حياة الطفل البالغة مما يجعل التدخل المبكر والدعم العاطفي من الأسرة ضرورة قصوى وليس خيارًا إضافيًا.
إن حماية أطفالنا تبدأ من التثقيف والوعي والاحتواء قبل أن تبدأ بالقوانين والمحاكم تبدأ بأن نصبح لأطفالنا ملاذًا حقيقيًا يثقون به ويجدون فيه صدرًا مفتوحًا لأي كلمة وأي خوف وأي ألم تمر به قلوبهم الصغيرة لنمنحهم حق الأمان الكامل ولننزع من قلوبهم خوف الإفصاح ولنحارب الصمت الذي يتواطأ مع الجريمة أكثر من أي شيء آخر.
التحرش ليس ذنب الضحية بل جريمة المجرم والخزي الحقيقي هو في صمت المجتمع على هذه الجريمة وليس في صراخ طفل يطلب النجدة فلنقف جميعًا مع أطفالنا ولنكن لهم حائط الصد الأول قبل أن تضيع براءتهم بين أنياب الخوف والخزي ولنحلم لهم بمستقبل خالٍ من الألم لأن طفولة آمنة اليوم تعني مجتمعًا قويًا وغدًا أكثر إنسانية.
★ أ. د. غادة عبد الرحيم علي أستاذ علم النفس والصحة النفسية المساعد ـ جامعة القاهرة
واستشاري تعديل سلوك الأطفال والمراهقين ومؤلفة كتاب «سوبر مامي» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب
أخبار متعلقة :