كان البلاط القبيح الذى يفرش الكورنيش محطما ومتربا، فتركت عينى للأضواء المنعكسة على الماء ٠ حين جاء بائع الفل قالت هى بسرعة: " لا نريد "، فتنهدت فى سرى ثم ركلت حجرا صغيرا، وأخذت أصفر بلحن أغنية أجنبية لأنسى أنى لم أتناول العشاء. سبقتنى إلى بائع الترمس وسبقتنى فى اخراج النقود، وهزت سبابتها أمام وجهها وهى تقول ليده الممتدة للقراطيس: "قرطاس واحد فقط ". لم أفهم، حتى مدت يدها لى بالترمس واحدة بعد واحدة. فى عينيها رأيت رأسى صغيرا جدا، ورأيت الأضواء تسبح بهدوء فى النيل، فابتلعت دون وعى قطعة البصل التى دستها بين أصابعى وأنا أخفى ارتعاشتي. ( احترس احترس، انها تنصب الفخ بوضوح مذهل " يتكلمون عنا، لا يهمنى، الزواج قيود، كلهم رجعيون، أمى تسأل عنك، المشى فى ليل الصيف رائع، أريد منك بعض الكتب، قل لى رأيك بصراحة، لا تهمنى النقود، الأطفال أنا أعشقهم." لا ينفع هذا المشى الأسبوعى معها، أنت بدأت تعتاد ذلك ولم يعد يضايقك تدللها الأنثوى، وهى ستتركك هكذا إلى أن تدمن الأمر، فتختفى فى بيتها أسبوعين أو ثلاثة، ثم تظهر بقصة عن عريس لقطة يصر عليه أبوها وهى لا ترتاح له، لكنها لا تستطيع اعلان الرفض لأنها بلغت الخامسة والعشرين ٠ ساعتها سيسألك العطش والجوع." ولم لا؟! "، وأنت الذى صنفتها منذ بداية البداية "بالطبع لا". وتبدأ الانزلاق الطويل الطويل: فاتحة، خطوبة، كلام أمك وكلام أمها، تفاصيل الخشب والقطن والذهب وطول الثلاجة ونوع الغسالة ولون الحوائط. يقبض أبوها على يدك تحت المنديل، وأنت تكرر كالطفل العبارات التى يقولها المأذون ٠ وبعد أن تنطلق الزغاريد يميل على أذنك ألف شخص يطلبون حساب ألف شيء٠ يهنئك الأصحاب ساخرين، تحت زينات الفرح يمر ضابط المباحث سعيدا أنه حاصرك أخيرا فى ركن، تدخل بالمرتب جمعيات وتكف عن التدخين، تقترض وتنتظم فى طوابير السلع الأرخص، بجدية تفاصل البائعين وتفاوض سماسرة السفارات، وترسل لأصحابك فى العراق واليمن والسعودية، تسب حال البلد وتذكرهم بأيام الكرة والكشرى والجامعة، لعل وعسى يأتى عقد عمل أو حتى هدية.. وينتهى بك الأمر نائما بجوارها على سرير وبينكما طفل جميل مسكين يمزق كتبك القديمة وهو يبتسم ) ٠ انتابتنى الكحة وطفرت دمعة إلى عيونى فضحكت فى انتصار. وقالت انها أيضا لا تطيق البصل. فى عينيها اتسع البؤبؤان وكان السواد ساخنا ٠٠ ليس عدلا أن يقف جائع مثلى أمام اصبعين أبيضين يمتدان بترمسة جديدة مسمومة.
كان البلاط القبيح الذى يفرش الكورنيش محطما ومتربا، فتركت عينى للأضواء المنعكسة على الماء ٠ حين جاء بائع الفل قالت هى بسرعة: " لا نريد "، فتنهدت فى سرى ثم ركلت حجرا صغيرا، وأخذت أصفر بلحن أغنية أجنبية لأنسى أنى لم أتناول العشاء. سبقتنى إلى بائع الترمس وسبقتنى فى اخراج النقود، وهزت سبابتها أمام وجهها وهى تقول ليده الممتدة للقراطيس: "قرطاس واحد فقط ". لم أفهم، حتى مدت يدها لى بالترمس واحدة بعد واحدة. فى عينيها رأيت رأسى صغيرا جدا، ورأيت الأضواء تسبح بهدوء فى النيل، فابتلعت دون وعى قطعة البصل التى دستها بين أصابعى وأنا أخفى ارتعاشتي. ( احترس احترس، انها تنصب الفخ بوضوح مذهل " يتكلمون عنا، لا يهمنى، الزواج قيود، كلهم رجعيون، أمى تسأل عنك، المشى فى ليل الصيف رائع، أريد منك بعض الكتب، قل لى رأيك بصراحة، لا تهمنى النقود، الأطفال أنا أعشقهم." لا ينفع هذا المشى الأسبوعى معها، أنت بدأت تعتاد ذلك ولم يعد يضايقك تدللها الأنثوى، وهى ستتركك هكذا إلى أن تدمن الأمر، فتختفى فى بيتها أسبوعين أو ثلاثة، ثم تظهر بقصة عن عريس لقطة يصر عليه أبوها وهى لا ترتاح له، لكنها لا تستطيع اعلان الرفض لأنها بلغت الخامسة والعشرين ٠ ساعتها سيسألك العطش والجوع." ولم لا؟! "، وأنت الذى صنفتها منذ بداية البداية "بالطبع لا". وتبدأ الانزلاق الطويل الطويل: فاتحة، خطوبة، كلام أمك وكلام أمها، تفاصيل الخشب والقطن والذهب وطول الثلاجة ونوع الغسالة ولون الحوائط. يقبض أبوها على يدك تحت المنديل، وأنت تكرر كالطفل العبارات التى يقولها المأذون ٠ وبعد أن تنطلق الزغاريد يميل على أذنك ألف شخص يطلبون حساب ألف شيء٠ يهنئك الأصحاب ساخرين، تحت زينات الفرح يمر ضابط المباحث سعيدا أنه حاصرك أخيرا فى ركن، تدخل بالمرتب جمعيات وتكف عن التدخين، تقترض وتنتظم فى طوابير السلع الأرخص، بجدية تفاصل البائعين وتفاوض سماسرة السفارات، وترسل لأصحابك فى العراق واليمن والسعودية، تسب حال البلد وتذكرهم بأيام الكرة والكشرى والجامعة، لعل وعسى يأتى عقد عمل أو حتى هدية.. وينتهى بك الأمر نائما بجوارها على سرير وبينكما طفل جميل مسكين يمزق كتبك القديمة وهو يبتسم ) ٠ انتابتنى الكحة وطفرت دمعة إلى عيونى فضحكت فى انتصار. وقالت انها أيضا لا تطيق البصل. فى عينيها اتسع البؤبؤان وكان السواد ساخنا ٠٠ ليس عدلا أن يقف جائع مثلى أمام اصبعين أبيضين يمتدان بترمسة جديدة مسمومة.
■ عبد المنعم محمود الباز، بكالوريوس الطب والجراحة جامعة المنصورة عضو اتحاد الكتاب المصريين منذ عام ١٩٨٨ فائز بالعديد من الجوائز فى مجال القصة القصيرة والنقد الأدبي.. صدرت له عدة مجموعات قصصية منها: " الشاطر حسن يخيب"، "مشكلة أكسجين فقط"، "صلوات خاصة"، "قليل من السماء"، "استئناس الصمت" و"دبيب دابة الأرض".
أخبار متعلقة :