في عالمٍ تُقاس فيه اللحظات بالأنفاس، قد تصنع الثانية الواحدة فرقًا بين بقاء حياةٍ أو رحيلها. الثانية ليست مجرد وقت، بل قد تكون أملًا متبقياً، نبضةً أخيرة، أو فرصةً للنجاة، خلال فترة قصيرة، تصدّرت حادثتان موجعتان المشهد العام، لهما ذات الوجع وإن اختلفت الملامح: روان، طالبة بكلية العلوم في جامعة الزقازيق، والطفلة صوفيا، التي لفظت أنفاسها بعد انتظارٍ طويل لوصول الإسعاف، رغم اختلاف الأعمار، فإن القاسم المشترك بينهما كان الزمن وتحديدًا، تلك الثواني التي لم تُستثمر كما يجب.
روان.. سقوط مدوٍ وصمتٌ موجع
كانت روان، طالبة شابة في ربيع عمرها، تدخل حرم جامعتها صباحًا، كما تفعل مئات الطالبات كل يوم. لا أحد كان يعلم أنها تحمل معها وجعًا ثقيلًا، لا يُرى بالعين. تشير الوقائع إلى أنها سقطت من الطابق الرابع في مبنى كلية العلوم، في لحظةٍ لم يكن بها أحد يتوقع أن يختار أحدهم نهاية بهذه القسوة.
تجمّع الطلاب، علا الصراخ، وبدأت الاتصالات بالإسعاف تتوالى. اثنا عشر بلاغًا تم تقديمه، والكل ينتظر سيارة الإنقاذ التي تأخرت – ولو قليلاً – لكنها تأخرت بما يكفي لتخطف اللحظة ما تبقى من نفس في صدر روان، ما الذي كان يمكن أن يتغير لو وصلت سيارة الإسعاف قبل ذلك بخمس دقائق؟ أو حتى بثلاث؟ ربما كانت ستُسعف، ربما كانت ستُنجى، وربما كنا نناقش الآن أزمةً نفسية، لا مأساة موت.
صوفيا.. طفولة تُدهس على قارعة الإهمال
على بعد مئات الكيلومترات من الزقازيق، في محافظة مطروح، عاشت عائلة أخرى لحظات قاسية لا يمكن نسيانها. الطفلة صوفيا، التي تعرضت لحادث دهس هي وأسرتها “والديها ةأحد أشقائها”، سقطت صوفيا تحت العجلات، وعانق جسدها الأرض في مشهد لن يمحى من ذاكرة كل من شاهده. صراخ والدها، لهفة المارة، وارتباك السائق، كلها كانت حاضرة، لكن ما لم يكن حاضرًا في الوقت المناسب هو “الإسعاف”.
مرت الدقائق وكأنها دهور، والقلوب تتعلق بأمل وصول سيارة إنقاذ قد تُعيد الحياة لطفلة لم ترتكب ذنبًا سوى أنها في منطقة لا تمتلك منظومة إسعاف طارئة فعالة حين وصلت المساعدة أخيرًا، كانت صوفيا قد غادرت، لحظة واحدة كان يمكن أن تغيّر كل شيء. مكالمة مبكرة، سيارة أقرب، شخص مدرب على إنعاش القلب، كاميرا ذكية تراقب التحرك العكسي للعربة شيء واحد فقط من هذه الأمور ربما كان كافيًا لتنجو صوفيا.
وقال والد الطفلة صوفيا، خلال مداخلة هاتفية رصدها موقع تحيا مصر، مع الإعلامية بسمة وهبة في برنامج "90 دقيقة" المذاع على قناة "المحور"، أن صوفيا لفظت أنفاسها الأخيرة قبل الوصول إلى المستشفى.
وأضاف والد الطفلة صوفيا، أن وفاتها كانت قضاءً وقدرًا، لكن الإهمال كان له دور كبير في النهاية المأساوية. وقال: "بنتي ماتت قبل ما نوصل المستشفى، وأنا شايفها بتموت ومفيش في إيدي حاجة، والواحد بيتقطع من جوه".
ماذا لو...؟
ماذا لو كانت سيارة الإسعاف الأقرب على بعد دقيقتين بدلًا من عشر؟
ماذا لو وُجدت نقطة إسعافية ثابتة داخل كل جامعة ومدرسة؟
ماذا لو كنا نمتلك قاعدة بيانات لحالات الطوارئ يمكن تفعيلها إلكترونيًا فور وقوع أي حادث؟
وماذا لو كان لكل طفل وطالب نفس الحماية والرعاية كما لو كان ابن مسؤول أو شخصية عامة؟
كثير من الـ "لو" لن يُعيد من رحلوا، لكنه قد يُنقذ من سيأتي، والتاريخ لا يرحم من يُهدر الدرس.
نظام طوارئ.. أم طوارئ في النظام؟
ما يكشفه حادثا روان وصوفيا هو أننا لا نملك فقط مشكلة في الوصول السريع للخدمة الطبية، بل في النظام ككل: من لحظة الإبلاغ، إلى التحرك، إلى الإجراءات الأولية في موقع الحدث، الفرق بين الحياة والموت قد يكون جهاز تنفس بسيط أو شخص تلقى تدريبًا في الإسعافات الأولية، أو حتى طفل يعرف رقم الإسعاف ويحفظ عنوانه بدقة، الحديث عن سرعة الاستجابة لا يعني فقط وجود سيارات، بل توزيعها العادل، تشغيلها المستمر، وتأهيل الطواقم البشرية فيها. كما يعني وجود خطط بديلة في حال تعذّر الوصول، مثل دراجات نارية طبية، أو وحدات إسعاف متنقلة على مدار الساعة.
ليست روان مجرد طالبة سقطت من طابق مرتفع، ولا صوفيا طفلة دهستها عجلة إهمال. هما صوتان ناعمان صرخا في وجوهنا بصمت: "أنقذونا في الوقت المناسب". هما شهيدتان لثانية لم تُحتسب، وخطأ لم يُصلح، ونظام يحتاج إلى إنعاش شامل، نحن لا نكتب فقط لنرثيهما، بل لنوقظ ضميرًا عامًا، ونفتح أبوابًا للتغيير، ونقول بصوتٍ واضح: الثانية تفرق… فهل ننتبه قبل أن يفوت الوقت؟.
أخبار متعلقة :