شديدُ الاعتزاز بصنع الله الفنان.. آن الأوان لتقرأه الحركة الفنية والأدبية فى رواية من أجملِ ما قرأتُ باللغة العربية خلال السنوات القليلة الماضية
أعترف بأنى شديد الضعف تجاه المواهب، وليس أسهل من الكتابة وسيلة تخدعُكَ عن الموهبة، والكتابة موهبةُ كل إنسان، مثلها مثل الكلام. ولكنْ، قليلون أولئك الذين باستطاعتهم أن يخلُقوا من الكلام فنًّا، وتمييزُ الذهب من القشرة فى حاجة إلى صائغ، والمواهب كالمعادن فى حاجة إلى ميتاليرجيست ليُفنِّد ويُقيِّم، ولستُ هذا الصائغ أو أخصَّائى المعادن، ولكنى أُحِسُّ بالموهبة مثل إحساسى بالخطر أو الأمل أو الضيق. ولقد عرفتُ صاحب هذا الكتاب منذ أكثر من عشر سنوات، دقيق الجسم، دقيق ملامح الوجه، أحيانًا أُحسُّ به كالطائر الذى يضع منظارًا.
ومنذ عرفتُ صنع الله وهو أصيل، لم أشهَده مرةً متلبسًا بخاطرٍ ليس من صنعه أو بفكرةٍ لم يَشقَ فى تحصيلها، وأسماء كثيرة أطلقتُها عليه، أوَّل ما عرفتُه سمَّيتُه داستايوفسكى أو كما تعوَّدنا تَسميتَه دوستوفيسكي؛ فقد كان يكتب بطريقةٍ منسابة فياضة تُحسُّ أن وراءها نبعًا لا ينضب، وكانت الشخصية المحبَّبة إليه أيامها هى خليل بك، وهو نموذجٌ بشرى التقطَتْه موهبة صنع الله كما يلتقط طائر النورس من طيرانه العالى ظَهر السمكة وينقَضُّ عليها. وخلَق صنع الله من خليل بك شخصيةً يمكن أن يُكتَب عنها عشراتُ الكتب دون أن يفرغ محتواها. كان أيامها فى العشرينيَّات، ولكن قصَصَه كانت تقترب من الأربعينيات الناضجة. كان متدفقًا غزيرًا بحيث إنى أُحسُّ بالأسف الشديد كلما تذكَّرتُ موهبته فى ذلك الحين. إذا كان النبات فى حاجة إلى رعايةٍ خاصة، والزهور النادرة فى حاجة إلى بيوتٍ من زجاج وتكييف هواء، والحيوان أيضًا، فى المزارع الحديثة نرعاه ونُدقِّق فى اختيار طعامه، وتوفير الراحة له ليدرَّ اللبن، فما بالُكَ بأرقى ما وصلَت إليه فى تطوُّرها الحياة، كل أنواع الحياة، الإنسان الفنان؟
وصنع الله أيامها لم يكن يطمح فى رعاية أكثر من أن ينضح النشر بعضَ ما يعجُّ به درج مكتبه، وعملًا، ولا شيء غير هذا، ولكننا بنفس الإسراف العبيط الذى نُبعثِر به الأشياء، ما أكثَر ما بعثَرنا من المواهب! وهكذا كُتب على دوستوفيسكى صنع الله إبراهيم ألا يرى النور، وأن تضيع مُسوَّداته وكتابته وتُهدَر، وأن يتوقف عن الكتابة فترةً طويلة، وخلال غيابه كنتُ دائم السؤال عنه خائفًا أن يعود الشاب ولا يعود الفنان. وفعلًا عاد الشاب وقابلتُه، وسألتُه إن كان قد كتَب، وفى خجل من نوعٍ خاص أعطانى هذه الرواية القصيرة التى قرأتُها، بل والتهمتُها فى جلسةٍ واحدة، جلسة كنتُ خلالها كثيرًا ما أسخط على الكاتب، وكثيرًا ما أفتقد صنع الله الأول، وكثيرًا ما أُحسُّ أنه يريد وكأنما بصبر أيوب أن يؤلم القارئ ويؤذيه، ولكنى حين انتهيتُ أحسستُ أنى لستُ فقط أمام فنانٍ عادَ، ولكنى أمام موهبةٍ جديدة، وكأنما وُلدَت فى الغيبة. والغريب أنه بالقَدْر الذى كانت تبدو فيه موهبتُه الأولى أكبر من سنه بكثير، تكاد تكون ضِعْف سنه، هذه المرة وجدتُ الشاب الذى أوشك على الثلاثين يكتب بروح ابن عشرين، دافئ التجربة طازج الإحساس، والحزن فى نفسه طبقات، ولكنه حزن الصبا، الحزن الدافع إلى اللاحزن والأمل. وجدتُ العقل ذلك الذى كان يُغلِق على نفسه الطريق لا يريد أن يراه. وجدتُه هنا يرى أولًا وينفعل أولًا، ويقطر رؤاه وانفعالاته على الورق بلا أى محاولةٍ لإخضاعها لفلسفةٍ معينة أو نظريات. وجدتُه قد آمن هذه المرة بالإنسان كظاهرةٍ أعظم من كل الظواهر، وأصبحَت أشجان الإنسان الصغيرة أهمَّ آلاف المرات من المعادلات مهما بدَت رائعة الانضباط فوق الورق. وجدتُ الفنان الذى فيه قد ثار ثورتَين، ثورة إلى الخارج، وثورة إلى داخل نفسه، يحطِّم قيودًا كثيرة كانت تجعلُه لا يصل إلا لسطح عقله ووجدانه، وتمنعه أن يغوص فى أعماقه ويغامر ويستكشف، عشر مرات قد يخرج بيده خاوية، ولكنه بالتأكيد ذات مرة سيخرج بحقيقةٍ قد تكفيه عمرًا بأكمله.
هنا أصبح صنع الله قصير الجُمل حادَّها، قصير النفَس، يلتقطه بسرعة ويُخرِجه ليدَّخر قواه كلها للغوص وللمغامرة والاكتشاف. هنا أصبح صنع الله مرًّا، ليست مرارةً حاقدة، ولكنها مرارةُ مَن يريد أن يتخلَّص، ويتخلَّص قُراؤه، من كل شعور بالمرارة، صريحًا فى أهدافه القصيرة، صريحًا إلى درجةٍ اشمأزَّت نفسى فيها من بعض تعبيراته، ولكن مقابل صراحته القصيرة هذه، هناك خُبثٌ فنى مخفى يُخاطِب، من وراء ظهر القارئ وعقله، والوجدان، أعمقَ طبقات الوجدان.
هنا فى هذه الرواية القصيرة لخَّص لى صنع الله، ليس فترةً هامة من حياة بطل القصة، إنما فترة أهم من حياة جيل صنع الله، ذلك التلخيص الساحر المركَّز شديد المفعول. إنها ليست قصة، بل إنها صفعة أو صرخة أو آهةٌ منبِّهة قوية تكاد تثير الهلع. لم يعُد لدى الفنان وقتٌ ليُنمِّق ويصُوغ الأحاسيس ببراعةٍ تستدرُّ الإعجاب. إنه هنا يريد أن يستدرَّ انفعالاتٍ أقوى من الإعجاب به ككاتب، أو الإعجاب بقصَّته كموضوع. إن البطل هنا ليس الرجل، وليس الشاب، وليست الأحداث أو العصر. البطل هنا هو إحساسٌ عامٌّ طاغٍ لا اسم له — إلى الآن على الأقل — وحتى حين حاول صنع الله بعنوان القصة، «تلك الرائحة» أن يُسمِّيه، هو فيما أعتقد قد فشل، بل إنى لأجد نفسى الآن فى حرجٍ شديد وأنا أُحاول أن أنتقى اسمًا لهذا الإحساس العام الذى نحَتَه وخلقَه صنع الله وأدخلَه دائرة الفن والأدب، ليس الإحساس بالغربة أو الاشمئزاز أو الضياع أو الثورة أو افتقاد الحنان أو الوجود، إنه إحساسٌ مختلف، من المجحف لصنع الله وهذا العمل أن أُحاول أن أعطيه اسمًا أو أُثير مشكلة حوله؛ فإنى أريدكم معي، أن تقرءوا القصة، وتخوضوا التجربة وتُحسُّوه، ولتُطلِقوا عليه بعد هذا ما شئتم من أسماء.
إنى لشديدُ الاعتزاز بصنع الله الفنان، وسعيدٌ حقيقة وأنا أُحس أنه قد آن الأوان لتقرأه الحركة الفنية والأدبية فى كتابٍ كامل فى قصة من أجملِ ما قرأتُ باللغة العربية خلال السنوات القليلة الماضية.
إن «تلك الرائحة» ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورةُ فنانٍ على نفسه، وهى ليست نهاية، ولكنها بدايةٌ أصيلة لموهبةٍ أصيلة، بدايةٌ فيها كل مَيْزات البداية، ولكنها تكاد تخلو من عيوب البدايات لأنها أيضًا موهبةٌ ناضجة.
يوسف إدريس عام ١٩٦٦
مقدمة الطبعة الأولى من «تلك الرائحة»
أخبار متعلقة :