خليج نيوز

الزندقة فى «مربع السياسة» خليج نيوز

كلمة الإلحاد فى القرآن الكريم لها معنى يختلف أشد الاختلاف عن معناها المعاصر، فهى فى القرآن تعنى الميل والابتعاد عن آيات الله تعالى وتكذيبها، يقول الله تعالى: «إن الذين يلحدون فى آياتنا لا يخفون علينا»، ويقول: «لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين». 

المعنى المعاصر للإلحاد يعنى «اللا دينية» فالملحدون هم اللا دينيون، أو الذين لا يعترفون بما تحمله الأديان من معتقدات حول الخلق ونشأة الحياة، والدنيا والآخرة، والجنة والنار، ولدى بعض الملحدين تصورات معينة عن هذه المسائل، مصدرها بعض نظريات العلم حول نشأة الحياة ونهايتها. ويشير العديد من الدراسات إلى أن الفضاء الافتراضى، الذى أتاحته شبكة الإنترنت وفّر مساحة جيدة لنشر أفكار اللا دينيين، وإظهارها، ويذهب البعض إلى أن هذا الظهور أدى إلى زيادة عدد الملحدين.

مصطلح «ملحد» إذن مستحدث، وله دلالة فى الحاضر تختلف أشد الاختلاف عن دلالته فى الماضى، فزمان كان الشخص المتهم بالابتعاد عن العبادات وأحكام الدين أو قيمه أو عقائده يوصف بـ«الزنديق»، ولم تكن الزندقة هنا تعنى شيئًا أكثر من التمرد على الأديان، ونسيان الحساب، أو عدم الاكتراث به، أو ربما أيضًا عدم الاعتراف به.

الظهور الأول لمصطلح «الزندقة» على مسرح الأحداث فى العالم المسلم، جاء أيام يزيد بن معاوية، وقد رُمى هو نفسه بهذه التهمة، يقول «ابن كثير» فى «البداية والنهاية»: «الناس فى يزيد بن معاوية أقسام، فمنهم من يحبه ويتولاه، وهم طائفة من أهل الشام من النواصب، وأما الروافض فيشنعون عليه ويفترون عليه أشياء كثيرة ليست فيه، ويتهمه كثير منهم بالزندقة، ولم يكن كذلك، وطائفة أخرى لا يحبونه ولا يسبونه، لما يعلمون من أنه لم يكن زنديقًا، كما تقول الرافضة، ولما وقع فى زمانه من الحوادث الفظيعة والأمور المستنكرة البشعة الشنيعة، فمن أنكرها قتل الحسين بن على بكربلاء، لكن لم يكن ذلك عن علم منه، ولعله لم يرض به ولم يسؤه، وذلك من الأمور المنكرة جدًا، ووقعة الحرة كانت من الأمور القبيحة بالمدينة النبوية». هذا الاضطراب فى توصيف وضعية «يزيد بن معاوية» وارتباك الخطاب الذى يقدمه «ابن كثير» حوله، يمنحك ابتداءً مؤشرًا على حالة التردد التى كانت تفرض نفسها على من ينوى أن يلقى بهذه التهمة على أحد، فتهمة الخروج على قيم الدين أو أحكامه، وما تعنيه من عدم اعتراف بالحساب، والثواب والعقاب، لم يكن من السهل على مسلم أن يُلقى بها على غيره من المسلمين، فهى من وجهة نظر الثقافة الشائعة تعد من أبشع التهم التى يمكن أن يُنعت بها أحد. وحالة التراوح التى حكمت «ابن كثير» وهو يتناول تهمة الزندقة التى لصقها فريق من المسلمين بالخليفة الأموى «يزيد» تدلك على حالة التحفظ فى توظيف هذه التهمة فى النيل من الكبار «الخلفاء والأمراء»، حتى ولو اشتملت عريضة الاتهام على بند خطير يتعلق بقتل سبط النبى، صلى الله عليه وسلم، فى الوقت الذى تساهل فيه المؤرخون كثيرًا، ومنهم «ابن كثير» نفسه، فى وصم الكثير من المسلمين خارج مؤسسة الحكم بهذه التهمة الخطيرة.

أنكر «ابن كثير» على الشيعة، الذين أطلق عليهم الرافضة، اتهامهم يزيد بالزندقة، ودافع عنه ونفى عنه التهمة، ومع ذلك فقد وقف المؤرخ فى حيرة وهو يستذكر مع قرائه الحوادث الفظيعة والأمور المستنكرة البشعة الشنيعة التى وقعت فى عصر «يزيد»، وأبشعها جريمة قتل الحسين بن على بكربلاء، والمقتلة التى نصبها فى أنصار رسول الله بالمدينة المنورة فى «وقعة الحرة» حين اندلعت ثورة «أنصارية» عارمة ضد حكم بنى أمية الذى يقوده «يزيد» فى الشام. القتل من الكبائر، فما بالك إذا كان هدف القاتل الحسين بن على، أو أنصار رسول الله، ذلك ما جعل «ابن كثير» يفكر قليلًا فى عدالة وصم يزيد بوصف الزندقة، فهل كان التورط فى «كبيرة القتل» هو المنظور الذى اعتمد عليه البعض فى وصم «يزيد» بـ«الزندقة»؟. هناك جانب سياسى واضح فى استدعاء التهمة ذات الطابع الدينى، وإلصاقها بالآخرين، فأعداء «يزيد» ركزوا على سلوكياته التى لا يختلف عليها اثنان، والمتمثلة فى قتل أولاد النبيين، واستباحة مدينة رسول الله، وقتل أهلها من الأنصار، وعدم اكتراثه بالعبادات وتعاليم الدين، أضف إلى ذلك سوء سلوكه، إلى حد أن مات بعضة قرد كان يداعبه. أما المدافعون عنه من المؤرخين، فيمرون سريعًا على أخطائه وخطاياه، وينظرون إليه كواحد من خلفاء بنى أمية، وكرجل لم ينكر معلومًا من الدين بالضرورة، وبالتالى لا يصح وصمه بتهمة «الزندقة».

رمى أى شخص بتهمة الزندقة مسألة بالغة التعقيد، إذا أخذناها من المنظور الدينى، فالله تعالى هو الأعلم بإيمان كل فرد. يقول تعالى: «والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض». فمسألة الإيمان ومنسوبه وطبيعته موكولة إلى الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن يزعم أن فلانًا أو علانًا أكثر أو أقل إيمانًا، وقد كان النبى، صلى الله عليه وسلم، يقول: «رُبّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره». ويقول: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، وبالتالى لا يصح أن يحكم إنسان على إنسان بالمظهر، أو حتى بما يردده لسانه، خصوصًا حين يتصل الأمر بمسألة الإيمان بالخالق.

فى هذا السياق نستطيع أن نفهم الخلل الخطير الذى توارثناه جيلًا بعد جيل فى الدفع بالمسألة الدينية داخل مربع السياسة، وهو الخلل الذى بدأ منذ مرحلة مبكرة من تاريخ الإسلام، بدءًا من سنة ٦٠ هجرية، وتأسس على استدعاء الدين فى الخلافات السياسية، وإذا كان للأولين من المسلمين الذين عاصروا معاوية ويزيدًا بعض العذر فى الوقوع فى مطب الخلط بين الدين والسياسة، بحكم تورط الأخير فى قتل سبط الرسول، صلى الله عليه وسلم، وقتل أهل البيت، ومحاولته استئصال شأفة آل محمد، فإن الآخرين من المسلمين لا عذر لهم فى ذلك، ويعد استدعاؤهم الدين ومنسوب التدين فى مربع السياسة خطيئة كبرى فى حق السياسة وفى حق الدين أيضًا.

أخبار متعلقة :