تحتاج صناعة الأفلام التسجيلية قدرا وافرا من الإيمان والتشكك، وقطعا العزيمة، وربما لم يكن ليتوافر هذا التحدي لدى ندى رياض وأيمن الأمير في رحلتهما لتقديم “رفعت عيني للسما” دون مساندة بعضهما، ليقتنصا جائزة العين الذهبية من مهرجان كان السينمائي الدولي لأفضل فيلم تسجيلي، بعد اختياره ضمن البرنامج الرسمي، والمنافسة بمسابقة اسبوع النقاد الذي يعني بالتجارب السينمائية الأولى منذ تأسيسه قبل أكثر من ستون عاما.
تتبع الكاميرا خلال 4 سنوات حكاية ثلاث شخصيات رئيسية، يغمرهن حب الفن بمختلف أشكاله، الأولى تتمنى دراسة التمثيل، والثانية الغناء، والثالثة رقص الباليه، وجدوا في فرقة بانوراما برشا لمسرح الشارع، ما يروي شغفهن الشديد ولو بشكل مؤقت، ورغم علمهن بصعوبة المنشود، لايظهرن سوى شجاعة مدهشة، يدركها جيدا من يعلم بواطن الأمور المتعلقة بالعادات والتقاليد في جنوب الوادي ومدن الصعيد.
ورغم عدم انطفاء هذه الشرارة، ومجابهتهن لكل ضغوط المجتمع المحافظ، يتقدمن بتمهل نحو الإنزلاق في الرغبة للحب والإرتباط، وكبح جماحهن في الإنطلاق والمثابرة من أجل الحلم بغد جديد، مغاير، بعيدا عن تلك الحافة، التي طالما بغضوها، وحاولن معارضتها في عروض الشارع، مرتكزن على ولعهم بالغناء والتمثيل، حتى ولو بقوا غرباء في أعين المحيطين.
الفيلم صور الفتيات في افتتاحيته وكأنهن يسرن على المياه، خارقات لكل القوانين الطبيعية، وهو ما انتهى به أيضا في ظهور فتيات لجيل أصغر، تسلمن تلك الراية المتمردة ليواصلن الصراخ، والنداء على المستقبل الباهر، لا يملكن إلا الإستمرار في انتزاع أبسط الحقوق التي جار عليهن فيها الغير بداعي “العيب”، مع رصد حميمي وفره المخرجان لنا بين حين وأخر على امتداد الأحداث لعلاقة الفتيات بالأب أو الزوج، وإظهار تلك السطوة أو السيطرة التي تمارس عليهن، وفي لقطة النهاية، خرجت الكاميرا من الحي الضيق بين أصوات غناء فرقة الفتيات الجدد حول المنازل المتهالكة، إلى فضاء أكثر رحابة، حتى اختفت الكتل الأسمنتية وظهرت الحقول الخضراء.
معايشة عميقة مع بطلات الفيلم نراها عبر الشريط التسجيلي المصري ربما كانت كلمة السر وراء انتقال مشاعرهن لنا بهذه الصورة الرقيقة أو الحادة، وكل ما يحيط بأحلامهن في إيجاد العمر وسمو الروح، وتماسك العزيمة للمضي نحو مستقبل أكثر إشراقا، وسط وابل من الإحباطات وخيبة الظن، تشي بتمرد وأمل قادم من قلب صعيد مصر، لطبقات نشأت وعاشت تحت وطأة التهميش.