صحيح أنّها ليست المرّة الأولى التي "تشتعل" فيها الحدود اللبنانية السورية، التي لطالما شكّلت "نقطة ضعف" للبلدين، بعدما تحوّلت إلى ساحة مفتوحة للتهريب والصراعات المسلحة، خصوصًا في مرحلة الحرب السورية، وتحديدًا في السنوات الأولى ما بعد ثورة العام 2011، لكنّ الصحيح أنّ الاشتباكات هذه المرّة، في ظلّ الإدارة الجديدة في سوريا، مختلفة عن كلّ ما سبق، فهي لم تعد مع مجموعات مسلحة، بل مع دولة، إن جاز التعبير.
Advertisement
وإذا كانت الحدود شهدت "جولة أولى" من الاشتباكات قبل أسابيع، أعلنت السلطات السورية في أعقابها "السيطرة الكاملة" عليها، إلا أنّ المنحى الذي أخذته هذه الجولة يتّسم بخطورة قد لا تكون مسبوقة، ترجم بحدّة التصريحات المتبادلة، والأدبيّات المستخدَمة فيها، من نوع الحديث عن القصف المركّز، والرد على مصادر النيران، فضلاً عن التسريبات حول تعزيزات أمنية واستعدادات لكل السيناريوهات، قبل الاتفاق على وقف إطلاق النار.
ومع أنّ الجانب السوري حاول "حصر" الموضوع بمواجهة مع "حزب الله"، يبدو أنّها مفتوحة منذ مساندة لأخير لنظام الأسد المخلوع، ولا سيما أنّها جاءت على خلفيّة حادثة، نفى الحزب "بشكل قاطع" أيّ علاقة له بها، إلا أنّ النتيجة أنّ ما حصل وضع العلاقات اللبنانية السورية برمّتها على فوهة البركان، فهل يجوز أن يحصل ما حصل، وتعجز الاتصالات السياسية عن ضبط الأوضاع لساعات طويلة، تسقط معها الكثير من الدماء على جانبي الحدود؟!
روايات "متضاربة"
منذ بدأت آخر جولات التصعيد على الحدود اللبنانية السورية، تضاربت الروايات، بل تناقضت، فوزارة الدفاع السورية اتهمت "حزب الله" بخطف ثلاثة عناصر من الجيش السوري، واقتيادهم إلى داخل الأراضي اللبنانية وتصفيتهم، واصفة ذلك بـ"التصعيد الخطير" من الحزب، ومعلنة أنّها "ستتخذ جميع الإجراءات اللازمة"، لتتعرّض بعد ذلك قرى وبلدات على الحدود إلى القصف المباشر من الجانب السوري.
في المقابل، اكتفى "حزب الله" ببيان رسميّ واحد، نفى فيه بشكل قاطع أيّ علاقة له بالأحداث التي جرت على الحدود، كما جدّد القول إنّ "لا علاقة له" بأي أحداث تجري داخل الأراضي السورية، في حين تحدّث الجيش اللبناني في أول بيان أصدره، عن "مقتل" ثلاثة سوريّين في محيط منطقة القصر-الهرمل، وعن اتصالات مكثّفة أجراها وسلّم بنتيجتها الجثامين الثلاثة إلى الجانب السوري، من دون أن يحدّد طريقة القتل، أو يتحدّث عن عملية خطف.
وبين الرواية الرسمية السورية، وتلك الصادرة عن الجيش اللبناني، روايات كثيرة تمّ التداول بها، من بينها أنّ العناصر الثلاثة الذين قُتِلوا، دخلوا "طوعًا" إلى داخل الأراضي اللبنانية، بغية سرقة أغنام، وأنّ راعيًا هو من قتلهم، وبينها أنّهم من المهرّبين، وهو ما تبنّاه وزير الدفاع في حديثه في مجلس الوزراء، لتبقى الحقيقة الواحدة والثابتة وسط كلّ ذلك، أنّ الأمور تطورت بشكل سريع ودراماتيكي، من دون أن تنجح كل الاتصالات في ضبطه.
خلفيات "سياسية"؟
أثارت أحداث الحدود اللبنانية السورية بالمنحى الذي أخذته الكثير من التساؤلات، فهناك من تحدّث عن "مصادفة" التزامن بينها وبين التصعيد الإسرائيلي المكثّف على الحدود الجنوبية للبنان، وهناك من تحدّث عن "تقاطع مصالح وتوزيع أدوار" في هذا الصدد، حتى إنّ هناك من ذهب بعيدًا لحدّ اعتبار كلّ ما جرى "مفتعلاً" من الجانب السوري، في سياق الضغط على "حزب الله"، وربما الدخول معه في "معركة" مفيدة للنظام الجديد إقليميًا ودوليًا.
وبمعزل عن مدى "دقّة" كلّ هذه التحليلات والاستنتاجات، يقول العارفون إنّ الثابت في كلّ ما جرى أنه "أبعد" من مجرد اشتباك "محدود" وقع على خلفية حادثة، قد تكون فردية وقد لا تكون، بل هو يعكس في مكان ما، المواجهة المفتوحة بين الإدارة السورية الجديدة و"حزب الله"، وربما تصفية حسابات عائدة إلى مرحلة الحرب السورية، التي لعب فيها الحزب دورًا أساسيًا إلى جانب النظام السابق، لن يكون نأي الحزب بنفسه اليوم كافيًا لحجبها.
بهذا المعنى، يمكن الحديث عن "خلفيات سياسية" لأحداث الحدود، تجعل ضبطها "محدودًا" هو الآخر، طالما أنّ الاحتقان في النفوس لا يزال موجودًا، علمًا أنّ إصرار القيادة السورية على التأكيد بأنّ "لا مشكلة" مع السلطات اللبنانية، وأنّ المواجهة محصورة مع "حزب الله"، يعزّز هذا الاعتقاد، ولو أنّه في مكانٍ ما "يتقاطع" مع كان يقوله الإسرائيلي في معرض تبرير حروبه على لبنان، فيما النتيجة تكون "استباحة" للسيادة في المقام الأول.
يقول البعض إن ما جرى على الحدود اللبنانية السورية لم يكن الأول من نوعه، ولن يكون الأخير أيضًا للأسف، حتى لو نجحت الاتصالات السياسية في "احتوائه نسبيًا"، بعدما أخذت الأمور منحى خطيرًا، ترجم ببيانات وتصريحات رسمية عالية السقف من الجانبين. لذلك، فإنّ المطلوب من الدولتين اللبنانية والسورية مقاربة صريحة وجادة ومسؤولة لملف العلاقات "الشائكة"، والنقاط العالقة على خطها، قبل فوات الأوان..