Advertisement
قبل عقود، كانت القدس القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية، شعاراً يُرفع في الساحات ووجعاً مشتركاً يوحّد الشعوب وعنواناً ثابتاً للحقّ والعدل لا جدال فيه. أما اليوم، فقد باتت في نظر البعض عبئاً سياسياً يُراد التخلص منه عبر اتفاقيات السلام الوهمي، أو محاصرته داخل إطار الخطابات الدبلوماسية التي تفرّغه من جوهره.
لم يكن هذا التراجع وليد اللحظة، بل جاء نتيجة تحولات سياسية واقتصادية فرضت نفسها على المنطقة. فمع تصاعد الأزمات الداخلية والتوّترات في المنطقة وتزايد الانهيارات الاقتصادية، باتت فلسطين في مكانٍ ما قضية مؤجلة، تُقدَّم عليها اعتبارات التحالفات الإقليمية والمصالح الاقتصادية، لتتحوّل من قضية مركزية إلى هامش الأولويات.
ولعلّ موجة التطبيع الأخيرة كانت أوضح مؤشر على هذا التغيير، حيث انتقلت بعض الدول العربية من موقع الدعم المبدئي للقضية الفلسطينية إلى موقع البحث عن شراكة استراتيجية مع إسرائيل، متذرعةً بأنّه من غير المقبول أن يتحوّل النضال الى مغامرات غير محسوبة.
لم يكن الاحتلال الإسرائيلي يعتمد فقط على قوّته العسكرية في فرض سيطرته بل راهن أيضاً على تغيير الوعي، وذلك من خلال خلق جيل جديد ينظر إلى قضية القدس كوجهة نظر، أو كمسألة قابلة للتفاوض. فوسائل الإعلام الحديثة والمنصات الرقمية والمصطلحات المستجدّة التي تُعاد صياغتها اليوم في الخطابات السياسية، كلها أدوات استخدمتها إسرائيل وحلفاؤها لإعادة تشكيل النظرة إلى القضية، بحيث تحوّلت القدس من حقّ واضح إلى مسألة خلاف سياسي، ومن مدينة محتلة إلى "عاصمة لإسرائيل"، كما يروج الاحتلال.
اليوم، مع تصاعد الهجمات الإسرائيلية، ومحاولات تغيير الواقع الديمغرافي عبر الاستيطان والتهويد، يصبح السؤال الأهم:
أي طريق يسلكه الفلسطينيون والعرب في مواجهة هذا المشهد؟
مما لا شكّ فيه أنّ هناك مسارين يتصارعان؛ المسار الاول هو مسار المقاومة، الذي يرى أن الاحتلال لا يمكن إنهاؤه بالمفاوضات وحدها، بل يحتاج إلى تكلفة ميدانية تجعل استمرار المشروع الصهيوني عبئاً على إسرائيل سياسياً وأمنياً. والثاني هو مسار التسوية الذي لا يزال يُراهن على مفاوضات واتفاقيات لم تحقق أي اختراق حقيقي منذ عقود، بل استغلتها إسرائيل لتوسيع مستوطناتها وإحكام قبضتها على القدس.
من الواضح أنّ تراجع القضية الفلسطينية تجاوز المستوى السياسي ليمتدّ إلى وجدان الشعوب، حيث شهدنا مؤخراً حالة من التشتّت في المواقف تجاه فلسطين. ففي حين كان الحديث عن الاحتلال في السابق يُوحّد الشعوب، أصبح اليوم ملفّاً خلافياً بين من يرى أنّ المقاومة حقّ ومن يعتبرها مغامرة خاسرة، وبين من يرفض التطبيع ومن يراه مصلحة سياسية. لكن رغم هذه المحاولات، يثبت الواقع أن القدس قادرة على إعادة فرض نفسها؛ ففي كل مرة تُنتهك حرمة المسجد الأقصى، تمتد التظاهرات على مساحات الأوطان ويُرفع اسم القدس في كل مكان ليثبت امام العالم كلّه أنّ القدس هي معركة وعي قبل الميدان.
من هُنا، وفي "يوم القدس" يبقى الثابت أن فلسطين ليست مجرد ذكرى عابرة، بل هي امتحان دائم للضمير الإنساني ولصدق المواقف ولقدرة الشعوب على مواجهة المخططات التي تستهدف وعيها قبل أن تستهدف أرضها. والثابت أيضاً أنه لا يمكن لأي اتفاقية أن تُسقط حقّاً، ولا لأي دبلوماسية أن تمحو ذاكرة.
القدس ستبقى عنوان الصراع، ومعيار المواقف، والاختبار الحقيقي لكل من يدّعي الالتزام بالقيم والحقوق.
ربّما يطول ليل الاحتلال ويمعن العدوّ اكثر في ظلمه، وقد تغيب القضية عن العناوين الرسمية لبعض الدول، لكنّه من المحال أن تغيب من وجدان الشعوب، لأن القدس ليست جغرافيا فقط، بل هي ذاكرة أمة، وحكاية صمود، ووعد لا يسقط بالتقادم.