في خضم تحولات سياسية معقدة، تبرز أزمات إنسانية متفاقمة تُعيد رسم المشهد في سوريا ولبنان واليمن، حيث تصطدم المصالح الدولية بمآسي الشعوب. في دمشق، مؤتمر للحوار الوطني يُثير الجدل حول مستقبل سوريا بعد نظام الأسد، بينما تسعى الأمم المتحدة لضمان شمولية العملية السياسية ومنع تكرار أخطاء الماضي. في الجنوب اللبناني، نزوح جماعي ودمار واسع تحت وطأة المواجهات العسكرية، وسط تساؤلات عن موقف الأمم المتحدة وإجراءاتها لحماية المدنيين. أما في اليمن، فتصاعد الاعتقالات والانتهاكات ضد موظفي المنظمات الدولية يكشف عن واقع أكثر قتامة، ويطرح أسئلة ملحة حول عجز الأمم المتحدة عن فرض موقف أكثر صرامة. ما الذي يحدث خلف الكواليس؟ وهل تستطيع الأمم المتحدة التأثير بفعالية على مسارات هذه الأزمات؟
هل تنجح العدالة الانتقالية في سوريا؟
أخبار الآن أجرت لقاء مع محمد النسور رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان الذي أكدّ أن الحوار والمصالحة الوطنية أمران ضروريان، الحكم على شرعية المؤتمر ومخرجاته يعود للسوريين أنفسهم. كما أشار إلى ضرورة إشراك جميع المكونات، بما في ذلك النساء، في أي عملية سياسية مستقبلية.
قال: “نحن ننظر إلى ما يحدث في سوريا كجزء من عملية متكاملة تُعرف بالعدالة الانتقالية. بعد سنوات طويلة من الانتهاكات الصريحة لحقوق الإنسان، تحتاج سوريا إلى هذه العملية لضمان مستقبل أكثر عدلًا وشمولًا”.
“الحوار والمصالحة الوطنية هما جزء من هذه العملية، والسلطات السورية أكدت أنها تهدف إلى إشراك جميع مكونات المجتمع السوري. مع ذلك، السوريون أنفسهم هم من يحددون مدى شرعية وفعالية هذه المخرجات. لم تكن الأمم المتحدة جزءًا من التحضير أو المشاركة في هذا الحوار الوطني، ولكننا نؤكد دائمًا أن أي عملية سياسية يجب ألا تعود إلى سياسات الإقصاء أو الانتهاكات السابقة. كما نحث على ضرورة إشراك جميع المكونات، بما في ذلك النساء، في أي عملية سياسية مستقبلية”.
يوضح النسور في حديثه لـ “أخبار الآن” أنّ الأمم المتحدة مُنعت من العمل داخل سوريا منذ عام 2011، لكنها تعمل الآن على إعادة فتح مكتبها في دمشق. يشير إلى جهود المفوضية في تعزيز المؤسسات القضائية والأمنية بمعايير حقوق الإنسان، مؤكدًا أن الأزمة السورية كانت في جوهرها أزمة حقوق إنسان، ولذلك فإن بناء سوريا الجديدة يجب أن يقوم على هذه الأسس.
قال: “نحن كجهة أممية مُنعنا من العمل في سوريا منذ عام 2011، واضطررنا للعمل على الملفات الحقوقية من خارج البلاد. حاليًا، لدينا فريق في دمشق يعمل مع السلطات السورية، ونسعى إلى نقل مكتبنا من بيروت إلى دمشق قريبًا. نعمل على ملفات عديدة، مثل إعادة بناء المؤسسات على أسس حقوقية، تدريب القضاء، وتعزيز معايير حقوق الإنسان في المؤسسات الأمنية. الأزمة السورية كانت في جوهرها أزمة حقوق إنسان، ولذلك فإن بناء سوريا جديدة يجب أن يتم على هذه الأسس لضمان عدم تكرار الانتهاكات الماضية”.
وكشف النسور أنّ الأمم المتحدة تدعو إلى عملية سياسية ديمقراطية وشاملة يقررها السوريون أنفسهم قائلاً: “من وجهة نظر حقوقية، نؤكد أن أي عملية سياسية يجب أن تكون ديمقراطية، شاملة، ومملوكة بالكامل من السوريين أنفسهم. نتعلم من التجارب السابقة في المنطقة، حيث أدت بعض السياسات مثل المحاصصة الطائفية أو إقصاء بعض المكونات إلى نتائج كارثية. نأمل أن تتجنب الحكومة السورية هذه الأخطاء وتبني مستقبل البلاد على أسس حقوق الإنسان والمساواة بين جميع السوريين”.
إعادة تأهيل الحكومة السورية دولياً
أوضح النسور أنّ المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك طالب بتخفيف العقوبات الاقتصادية على سوريا نظرًا لتأثيرها السلبي على المدنيين.
قال: “المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، زار دمشق في يناير الماضي وطالب الدول بتعليق العقوبات الاقتصادية لأنها تؤثر سلبًا على الشعب السوري. ونرحب بتعليق بعض العقوبات في الفترة الأخيرة. سوريا بحاجة ماسة لإعادة الإعمار، لكن هذا يجب أن يسير بالتوازي مع العدالة الانتقالية. لا يمكن أن تتم إعادة البناء على حساب المحاسبة والإنصاف للضحايا. التصالح المجتمعي والنهوض بسوريا من جديد يتطلبان تحقيق العدالة جنبًا إلى جنب مع جهود إعادة الإعمار”.
عودة اللاجئين السوريين
يشير النسور إلى أن الأمم المتحدة تتابع ملف اللاجئين السوريين، مؤكدًا على مبدأ عدم إجبار أي لاجئ على العودة في حال كانت حياته معرضة للخطر. كما يوضح أن عودة اللاجئين من الدول المجاورة مستمرة، لكن هناك تحديات كبيرة تتعلق بقدرة الحكومة السورية على توفير الخدمات الأساسية للعائدين.
قال: “المفوضية الخاصة بشؤون اللاجئين تتابع هذا الملف، وهناك مبدأ دولي يقضي بعدم إجبار اللاجئين على العودة إذا كانت حياتهم في خطر. نلاحظ عودة أعداد كبيرة من اللاجئين من لبنان والأردن وتركيا، ولكن العودة من الدول الأوروبية أقل. التحدي الأكبر يكمن في قدرة الحكومة السورية على استيعاب العائدين في ظل نقص الخدمات الأساسية مثل المنازل، المدارس، والمستشفيات. نسمع من الدول المجاورة أن العودة تتم بشكل طوعي، ونأمل أن تتوفر الظروف المناسبة لضمان عودة كريمة وآمنة للاجئين”.
انتهاكات جنوب لبنان
في ظل الوضع في جنوب لبنان، تتزايد الدعوات الدولية لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وحماية المدنيين وفق القانون الدولي. وبينما تتابع الأمم المتحدة تطورات الأوضاع، تثار التساؤلات حول إمكانية إجراء تحقيقات مستقلة بشأن هذه الانتهاكات وآليات تنفيذها.
وفي السياق يشير النسور إلى أن الأمم المتحدة أصدرت عدة بيانات بشأن العمليات العسكرية التي شهدها جنوب لبنان مؤخرًا، والتي أسفرت عن تهجير عشرات الآلاف من اللبنانيين من مناطقهم. يؤكد أن الوضع الإنساني هناك يزداد تعقيدًا في ظل استمرار التصعيد، مشددًا على ضرورة حماية المدنيين وفق القانون الدولي الإنساني.
فيما يتعلق بالمساءلة عن الانتهاكات، يوضح النسور أن الأمم المتحدة أجرت مناقشات مع الحكومة اللبنانية حول إمكانية فتح تحقيق رسمي في تلك الانتهاكات، لكنه يلفت إلى أن مثل هذا الإجراء لا يمكن أن يتم إلا بطلب رسمي من السلطات اللبنانية. ويضيف أن أي تحقيق يجب أن يكون محايدًا ومستقلًا لضمان العدالة والمحاسبة على أي خروقات للقوانين الدولية.
ويشير أيضاً إلى أهمية دور المجتمع الدولي في دعم الجهود الرامية إلى حماية المدنيين وتعزيز آليات المحاسبة، سواء عبر المنظمات الأممية أو من خلال التعاون مع الجهات الحقوقية المعنية. وفي ظل استمرار النزاع، يبقى التحدي الأكبر هو إيجاد حلول تضمن عدم تفاقم الأزمة الإنسانية وتمنع تكرار الانتهاكات في المستقبل.
الوضع في اليمن واعتقال موظفي الأمم المتحدة
في حديثه مع أخبار الآن عبّر النسور عن قلقه بشأن اعتقال موظفي الأمم المتحدة في اليمن منذ عام 2021، ويوضح أن الأمم المتحدة اضطرت إلى تعليق عملها في صنعاء بسبب هذه الظروف. كما يشير إلى حادثة وفاة أحد موظفي برنامج الغذاء العالمي، مؤكدًا أن التحقيقات لا تزال جارية لمعرفة الأسباب الحقيقية للوفاة.
قال: “منذ عام 2021، تم اعتقال عدد من موظفي المفوضية السامية لحقوق الإنسان، وفي الفترة الأخيرة اعتُقل عدد آخر من موظفينا. لا نعتقد أن هذه التهم صحيحة، ولذلك قمنا بتعليق عملنا في صنعاء وفي شمال اليمن. أصدرنا عدة بيانات تطالب الحوثيين بإطلاق سراح الموظفين، لكن للأسف لم نجد استجابة. حادثة وفاة أحد موظفي برنامج الغذاء العالمي مؤلمة للغاية، وما زلنا نتابع التحقيق في أسبابها”.
وتابع: “لا يمكننا العمل في بيئة لا تحترم حقوق الإنسان، ولذلك اضطررنا لتعليق أنشطتنا في صنعاء. نواصل العمل من مكتبنا في عدن ونسعى جاهدين للتفاوض مع الجهات المسؤولة لإطلاق سراح موظفينا وضمان سلامتهم”.
أخبار متعلقة :