تتغيّر العناوين وتنقلب الأولويات في العالم، من دون أن يفهم أحد الأسباب والحيثيّات، ولا التبعات والتداعيات. هكذا، بدأ الأسبوع مثلاً على وقع الحديث عن مفاوضات "تتقدّم" على خط الحرب الإسرائيلية على غزة، وإذ به ينتهي على ضربة إسرائيلية مدمّرة وغير مسبوقة ضدّ إيران، تنذر بتصعيد المواجهة والحرب أكثر، وهي التي تأتي قبل يومين من جولة المفاوضات السادسة المفترضة بين واشنطن وطهران، والتي وُصِفت بـ"الحاسمة".
هو "التناقض" يصعب فهمه بالنسبة إلى كثيرين، ففي وقتٍ تستعدّ واشنطن وطهران إلى جولة من المفاوضات، كان يفترض أن تفضي إلى اتفاق يجنّب البلدين مواجهة عسكرية يقولان إنهما لا يريدانها، يرتفع سقف التراشق الكلامي بينهما، وتدخل
إسرائيل على الخطّ، وهي التي لم تخفِ امتعاضها منذ اليوم الذي أعلن فيه
ترامب عن بدء المفاوضات، بحضور
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو، الذي بدا "مصدومًا" حينها من الخبر غير السار.
ويزداد "التناقض" مع "حجم" الضربة ضدّ إيران، التي يصفها الإسرائيليون للمفارقة بـ"الافتتاحية فقط"، ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّها ستكون جولة من سلسلة "أيام قتالية" وفق ما يصفها البعض، بانتظار ردّ
طهران، الذي سارع المسؤولون الإيرانيون إلى التلويح به منذ اللحظة الأولى، على وقع "حبس أنفاس" غير مسبوق أيضًا، فماذا بعد الهجوم
الإسرائيلي المدمّر، وهل تبقى شظاياه محصورة، أم تمتدّ لتشمل كامل المنطقة؟!
هجوم "غير مسبوق"
صحيح أنّ مؤشّرات القلق بدأت بالتصاعد في الساعات الثماني والأربعين الماضية، مع إعلان الرئيس الأميركي
دونالد ترامب أولاً عن خفض عدد الموظفين المعتمدين في المنطقة، ومن ثمّ قوله إنّ الهجوم الإسرائيلي "مرجَّح بقوة"، ولو أنّه ألمح إلى أنّه "قد لا يكون وشيكًا"، إلا أنّ الاعتقاد كان أنّ هذا الهجوم لن يحصل قبل جولة المفاوضات المرتقبة الأحد، وأنه سيكون "محدودًا" في حال حدوثه قبل ذلك، بما يضعه في خانة "الضغوط القصوى" على إيران.
لكنّ الهجوم جاء ليباغت الجميع، بشكله ومضمونه، حتى إنّ هناك من اعتبر أنّ "خديعة جديدة" تعرّضت لها إيران، وهي التي كانت في طور درس "السيناريوهات المحتملة"، فإذا بها تجد نفسها عرضة لسلسلة من الهجمات التي شملت مواقع نووية وعسكرية، ولكن أيضًا لمجموعة واسعة من الاغتيالات التي شملت كبار المسؤولين، بينهم قائد أركان القوات المسلحة وقائد الحرس الثوري
الإيراني، إضافة إلى عدد من العلماء النوويين الأساسيّين.
وفي حين ترفع إسرائيل "
القضاء على البرنامج
النووي الإيراني" عنوانًا للضربات التي شنّتها، وهو ما يفسّر التخطيط والاختراق الكبيرَيْن اللذين حصلا، فإنّ الثابت وفق ما يقول العارفون أنّ هذا الهجوم الذي قد يكون "مؤجَّلاً"، إذ إنّ إسرائيل كانت
تعدّ له منذ ما قبل بدء المفاوضات بين
الولايات المتحدة وإيران، هو بمثابة إعلان "فشل" للمفاوضات، بعيدًا عن الاجتهاد القائل بأنّ هدفه الضغط على إيران، لجرّها للقبول بالشروط
الأميركية.
المنطقة "تغلي"
هكذا، يبدو أنّ المنطقة "تغلي" على وقع الهجوم الإسرائيلي المباغت وغير المتوقع، رغم كلّ التمهيد له، علمًا أنّ "حبس الأنفاس" يبدو أنّه سيستمرّ لوقت طويل، وهو ما يفسّر الاستنفار الواسع في كل من الولايات المتحدة التي دعت رعاياها إلى "الحذر الشديد"، وإسرائيل التي ترجّح بقاء الناس في الملاجئ "لأيام"، وإيران التي سارعت لمحاولة "احتواء" ما جرى وتعيين "الشواغر"، بما يسمح بخوض "المواجهة الواسعة".
في كلّ الأحوال، يقول العارفون إنّ إيران تبدو اليوم بعد هذا الهجوم المباغت في وضعٍ لا تُحسَد عليه، فما جرى قد يكون نتيجة للحروب الإسرائيلية التي شملت كلّ وكلائها في المنطقة، والاغتيالات الكبيرة التي نفذتها من دون أن تواجه أيّ تداعيات "ثقيلة"، بما في ذلك اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة
حماس إسماعيل هنية أثناء وجوده في طهران، وكذلك
الأمين العام لـ"
حزب الله"
السيد حسن نصر الله، مع كلّ ما انطوى عليه من "رمزية".
ولعلّ إيران تجد نفسها مرّة أخرى في قلب المواجهة، مع فشل دور "الردع" الذي حاولت لعبه على مدى الأيام الأخيرة، إذ لم تنجح "العملية الاستخبارية المعقّدة" التي أعلنت عنها قبل أيام في منع الهجوم، ولا استطاعت تهديدات إيران بضرب المنشآت الإسرائيلية السرية في احتوائه، وهو ما يعني أنّ "الحرب فُرِضت" هذه المرّة على طهران، وإنّ الاكتفاء بردّ "شكليّ" مهما بلغ حجمه، قد يكون "بداية النهاية" في مكانٍ ما، بعد فقدان الهيبة.
هو "حبس أنفاس" وصل إلى أوجه في المنطقة، مع الهجوم الإسرائيلي "المدمّر"، أو ما يوصف بالجولة "الافتتاحية" منه، أقلّه بانتظار الردّ الإيراني الذي يقول العارفون إنّه "حتميّ"، وإنّ إيران ليست فعليًا أمام خيار حقيقيّ على هذا المستوى، فهل يكون الردّ بحجم الهجوم القاسي الذي تعرّضت له، ولو أدّى ذلك إلى "حرب إقليمية" يبدو أنّ إسرائيل لا تخشاها، أم يحاول "احتواء" ما جرى، بأقلّ الأضرار، على كثرتها؟!