نتابع معكم عبر موقعنا خليج نيوز
د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب
أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية سابقا بجامعة أم القرى
الجميع يراقب ولاية ترمب الجديدة من روسيا إلى أوروبا والصين حتى الهند والمنظمات العالمية، فيما السعودية سعت نحو بناء قدرات سياسية واقتصادية وأمنية ولوجستية بمثابة جدار عازل داخليا من أجل الاندماج مع العالم الخارجي، وامتصاص الصدمات الناتجة عن التحديات المفاجئة لعقود مستقبلية.
فترمب عندما يدخل البيت الأبيض في 20 يناير 2025 سيجد هناك سعودية جديدة، ليست كما كانت في فترته الأولى في 2020، نجحت السعودية في إنزال إيران من أعلى الشجرة، لتصبح دولة طبيعية، وإن كانت هي من طلبت التخلي عن مليشياتها بشكل تدريجي، وأن نفوذها سيتراجع في المنطقة تكتيكيا وببطئ، من أجل تنفيذ الاتفاق برعاية بكين بل حدث هناك اجتماع ثلاثي في الرياض بين السعودية وإيران والصين في 19 نوفمبر 2024 والسعي لتعزيز العلاقات عقب زيارة رئيس الأركان السعودي لمثيله في طهران في ظل تصاعد التوترات في المنطقة، مقابل توسيع التعاون بين البلدين في مختلف المجالات بما في ذلك الاقتصادية والسياسية وأن الجانبين أكدا التزامهما بتنفيذ اتفاق بكين المبرم في مارس 2023 بكافة بنوده، بم افي ذلك احترام سيادة الدول واستقلالها وأمنها، وتطلع البلدان إلى استعدادهما لتوقيع اتفاقية تجنب الازدواج الضريبي DTAA K ، لكن هناك تحركات دولية تسرع في الاجهاز على النفوذ الإيراني وهذا شأنها، وليس شأن السعودية ولن تشارك فيه.
نجد وزير الدفاع الإيراني يصل سوريا بشكل مفاجئ، وفي نفس الوقت العشائر العربية في البوكمال يمنعون الفوج ال75 التابع للحرس الثوري الإيراني من الاستيلاء أو الدخول إلى البوكمال، سبقها ضربات أمريكية بعد تلقي القاعدة الأميركية الشدادي في الحسكة، بعض الضربات أتت من مليشيات الحرس الثوري الإيراني، كما لاقى مستشار خامني لاريجاني في لبنان أثناء زيارته ولأول مرة تفتيش من قبل الجيش اللبناني، ما جعل وفد إيراني آخر يعود أدراجه عائدا إلى إيران.
لا تود السعودية في نفس الوقت أن تحل إسرائيل محل النفوذ الإيراني، ويدرك ترمب الذي يتهم الإدارات الأمريكية السابقة بانها جعلت روسيا تحتل أجزاء من جورجيا، وشبه جزيرة القرم في عهد أوباما، والحرب الروسية في أوكرانيا في عهد بايدن، الذي أراد عزل السعودية، وإعادة تقييم العلاقات الاستراتيجية التاريخية، ما جعل السعودية تلجأ إلى جعل الصين لأول مرة تشارك في المنطقة، رغم انها ضئيلة، لكنها ستتسع إذا اختار ترمب تحقيق هيئة الاستيطان الإسرائيلية هدفها في ضم الضفة الغربية وإعطائها الضوء الأخضر، خصوصا وأن هناك اعتقاد اليهود والسامرة ولا توجد ضفة غربية، ولم يتعامل العرب مع كثير من الفرص التي أتيحت لهم أبرزها كانت في عهد الملك فهد رحمه الله عندما كان وليا للعهد تقدم بمشروع الدولة الفلسطينية في قمة فاس 1981 لكن دول ما تسمى الصمود العراق وسوريا وليبيا والفلسطينيين وقفوا أمام مشروع الملك فهد لإنهاء الصراع وتم تعليق القمة إلى 1982 وتم تمرير المشروع بعدما أصبح الملك فهد ملكا وأصاب دول الصمود أزمات كان يعتقد صدام حسين الحرب مع إيران نزهة وتلقى الفلسطينيون صدمة في بيروت وإخراجهم منها وكذلك سوريا.
في أي صفقة مع أمريكا لن تنسى السعودية ضرب أرامكو في 2019، ولم تحرك أمريكا في عهد ترمب ساكنا، رغم أن الملك عبد الله بن عبد العزيز جدد الاتفاق الاستراتيجي مع الولايات المتحدة في عهد جورج بوش في 2005، وظفت السعودية هذا الأخطاء، بل كانت سعيدة بها، رغم خطرها الاستراتيجي، لكن استثمرتها أحسن استثمار في التحرك بحرية تامة، وكان لها الحق في التحرر من التبعية الأمريكية، والبحث عن البدائل التي تحمي أمنها، جعلها تتجه نحو إذابة الجليد مع إيران برعاية بكين، أصاب الولايات المتحدة بصدمة، لم تفق منها حتى وجدت حلا آخر أوجدت الحرب الروسية في أوكرانيا الفرصة والحل في آن واحد، وأصبحت أوروبا متعطشة للطاقة في الخليج فأعلنت امريكا والسعودية في قمة ال20 في الهند بطريق هندي أوروبي يمر بالسعودية لمنافسة ومزاحمة الحزام والطريق الصيني إلى أوروبا، فاستوعبت الصدمات التي أصابتها وتعاملت معها بكل اقتدار عززت من متانة السياسة السعودية وأعطاها كافة المبررات في انتقاء ما يناسبها وقبول ما يناسبها وتحولت إلى سعودية جديدة تملي ما يصب في مصلحتها.
تود السعودية أن تقنع العرب، بل وتقودهم نحو الحل الصعب في أوقات اليأس، وهي صناعة المحترفين، فالمرحلة المقبلة تقود السعودية طوفان أقصى سلمي، يعيد للفلسطينيين حقوقهم، بعدما رفض العرب القرار 181 في 29 نوفمبر 1947 الذي يقسم فلسطين إلى 3 كيانات دولة عربية تبلغ مساحتها 11 ألف كلم مربع 42.3 من مساحة فلسطين وتقع على الجليل الغربي، ومدينة عكا، والضفة الغربية، والساحل الجنوبي الممتد من شمال مدينة أسدود وجنوبا حتى رفح مع جزء من الصحراء على طول الشريط الحدودي مع مصر، ودولة يهودية 15 ألف كلم مربع، والقدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت وصاية دولية.
سبق أن نصح الرئيس بورقيبة الرئيس جمال عبد الناصر باللجوء إلى الحلول السلمية مع إسرائيل، خصوصا وأن الولايات المتحدة كان موقفها مشرفا مع مصر والعرب عندما أمرت القوات الفرنسية والبريطانية والإسرائيلية في عام 1956 الخروج من قناة السويس، لكن لم يستجيب جمال عبد الناصر القومي الذي يعتمد كثيرا في قراراته على الشارع المصري والعربي في رسم سياساته، وهذه مشكلة كثير من السياسيين الذين يخضعون لضغوط الشارع الشعبوي، وهي ضغوط تختلف عن مطالب الشارع الشعبي، التي تلبيها الدول وفق الإمكانيات المتاحة، كما حدث في ثورات 2011 والتي تنبهت السعودية لهذه الثورات التي كانت أداة لسيطرة إيران وتركيا عبر تيارات الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، أي عبر الطائفية التي سادت في العراق عام 2006.
كانت مصيبة العرب الكبرى مقاطعة مصر السادات بقيادة صدام حسين والقذافي الذي اختار السلام مع إسرائيل باتفاقية كامب ديفيد 1978، وكان هناك اعتراف دولي بمنظمة فتح، وإعلان الاستقلال الفلسطيني في 15 نوفمبر 1988 من قبل أكثر من 80 دولة في فبراير 1989 محاولة لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي سبتمبر 1993 اعتراف المجتمع الدولي بالسلطة الفلسطينية كإدارة مؤقتة للحكم الذاتي في الأراضي الفلسطينية، وفي 29 نوفمبر 2012 اقترحت الأمم المتحدة يغير كيان فلسطين إلى دولة مراقبة غير عضو بتصويت 138، واليوم هناك جهد سعودي قوي جدا يستثمر الفرص المتاحة والتغيرات الجيوسياسية والجيوقتصادية بقيادة العرب والمسلمين نتج عنه اعتراف أممي في مايو 2024 اعتراف 147 دولة بدولة فلسطين كدولة ذات عضوية كاملة في الأمم المتحدة.
بالطبع هناك موجة عارمة من جهات مشبوهة تستهدف تحجيم الجهود السعودية بفيديوهات مؤثرة تؤجج الشارع العربي محاولة إظهار ضعف الدور السعودي في مواجهة الأزمة في غزة ولبنان، خصوصا وأن السعودية لا تنجرف للعواطف، وتعتبر الأمن خط أحمر ومنها السعودية، وتدرك أن المليشات الإرهابية صراعها ليس مع إسرائيل، وإن كانت تبدي ذلك ظاهريا، وإنما صراعها مع السعودية، وفي كثير من لقاءاتي مع قادة حوثيين يعلنون أنهم ينتظرون احتلال مكة والدخول إلى الرياض.
لذلك هم يتجاهلون الضغط السعودي ضد إسرائيل من أجل وقف البلطجة الإسرائيلية التي تمارس الإبادة في غزة وفي جنوب لبنان وجهت السعودية هذه الإبادة بالقرارات الصادرة عن القمة العربية الإسلامية للمتابعة التي عقدت في الرياض للضغط على إسرائيل من أجل قبول الحل السياسي بإقامة دولة فلسطينية تماشيا مع مطالب المجتمع الدولي، وهو ما أثمر نتيجة الضغط العربي الإسلامي الأوروبي الدول بصدور حكم من الجنائية الدولية بالقبض على نتنياهو ووزير الدفاع باعتبارهما مجرمي حرب.
هناك قادة إسرائيليون يؤيدون فكرة إقامة دولة فلسطينية، ففي نوفمبر 2001 كان أرئيل شارون أول رئيس يعلن قيام دولة فلسطينية هو الحل للصراع وهدف إدارته، كررت الحكومة التي يتزعمها إيهود أولمرت، وفي 14 يونيو 2009 ألقى نتنياهو لأول مرة خطابا أيد فيه فكرة إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح.
إذا السعودية التي بنت دفاعاتها لامتصاص الصدمات الدولية لعقود قادمة وليس فقط آنية، وترفع سقف عقد صفقاتها الأمنية والدفاعية، وتحتاط في أن تستمر أمريكا القطب الأوحد أو أحد الأقطاب العالمية في 2050، وتدرك أمريكا إذا خرجت من المنطقة لمواجهة الصين أن إسرائيل دولة صغيرة، وتعاني من صراعات داخلية، وإيران تعاني ضعف وهشاشة بعدما تمكنت السعودية من مواجهة النفوذ الإيراني الذي يحتاج إلى دراسة مستفيضة، وهناك كتاب لي صدر في 2017 عنوانه ( التصدي السعودي الصلب في مواجهة النفوذ الإيراني )، لم يتبقى في المنطقة سوى السعودية لقيادة المنطقة، وليس كما خرجت أمريكا من المنطقة لمواجهة الصين في 2004- 2006 توسعت إيران في سوريا ولبنان وتنامي قدرات حزب الله.
اكتشفت الآن أمريكا أنها اعتمدت على دول هشة إيران وتركيا، أي أنها ارتكبت أخطاء استراتيجية أمريكية، جعلت المنطقة تدفع الثمن، فالسعودية الآن ليست كما في 2020، فسقف صفقاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة ارتفع لأسباب عديدة، أولا لأنها لم تعد مهددة من إيران، وفشلت أمريكا في توريط السعودية في مواجهة مع إيران ومليشياتها لخرق هذا الاتفاق، فأي صفقة دفاعية مع أمريكا تحتاج إلى موافقة ثلثي الكونغرس وشرطه أن تقيم علاقة السعودية مع إسرائيل، لكن استبقتهم السعودية في وضع شرط إقامة الدولة الفلسطينية، ولم تعد الاتفاقية الدفاعية ذات أهمية قصوى للسعودية، رغم أن عقيدتها العسكرية تميل للغرب، لكنها ليست ثابتا من الثوابت، فاتجهت السعودية إلى تنويع مصادر أسلحتها من الصين وروسيا وأوروبا وأمريكا مع توطين 50 في المائة من أي صفقة، خصوصا بعدما سحب بايدن الباتريوت ومنع تسليم السعودية أسلحة متقدمة.
خصوصا وأن السعودية أصبحت دولة تحتاط استراتيجيا لتأمين أمنها من أي مخاطر مستقبلية، ومن مخاطر القطب الأمريكي نفسه، وهدف أي اتفاق دفاعي يجب أن تكون فيه حسابات توازن القوى العالمية في العقود المستقبلية، وقد تصبح الولايات المتحدة القطب السابق، خصوصا وأن العالم يمر بمخاض العالم الجديد.
فالسعودية تتقن لعبة المفاجئات السياسية، والتحوط لأي صدمات مفاجئة قادمة، فسقف السعودية تجاه الصفقات يرتفع، فمثلا إسرائيل قبل 17 سبتمبر 2024 كانت تطالب بتطبيق القرار 1701 لزحزحة حزب الله خلف الليطاني، لكنها اليوم بعدما تمكنت من تفكيك قدرات حزب الله السياسية والعسكرية، أصبحت تطالب بتنفيذ القرار 1559 فيما قبل حزب الله بالقرار 1701 لعدما كان ينتظر القرار من طهران، لكن إسرائيل لم تعد تقبل ذلك، فكذلك السعودية ترفع سقفها تجاه الصفقات مع الولايات المتحدة أو مع أي طرف آخر، والسعودية تستعد للحفاظ على استقرار موقعها الجيوسياسي الإقليمي في المنطقة بعد خروج أمريكا في عهد ترمب من المنطقة، بذلك لم تترك السعودية أي ساحة للولايات المتحدة في المنطقة التلاعب بها، لأن المشهد الجيوسياسي والجغرافيا السياسية في المنطقة تغيرت لصالح السعودية، بناء على ذلك سقف المطالب السعودية أيضا ارتفع.
إذا أتى ترمب لمرحلة ما بعد بايدن سيصطدم بالسعودية، لأن القطار السعودي سريع، بسبب أن ترمب في 2020 كان ينظر إلى صفقة السلام بين العرب وإسرائيل طويلة الأمد ضد إيران، فهذه الاستراتيجية أصبحت من الماضي، بعدما حدث اتفاق بين السعودية وإيران في مارس 2023، وهي غير مهتمة بأي صفقة دفاع بينهما، وقد لا تحدث وفق التطورات الجديدة، بسبب أن السعودية اتجهت إلى اذابة تجذير الصراع المذهبي التاريخي، كما حرصت الدول الكبرى على تجذيره في المنطقة، ليصبح الصراع أزلي.
بذلك تكون السعودية قد ضربت الثوابت التي ترتكز عليها أمريكا في المنطقة، بل ضربت التمركز الأمريكي، فيكون ترمب قد يسئ قراءة المشهد في المنطقة وفق 2020، بخلاف السعودية قراءتها للمشهد العالمي وتوازن القوى في 2050، خصوصا وأن السعودية أصبحت ممر لطريقين اقتصاديين يخدم العالم، هما الحزام والطريق الصيني، والممر الهندي الأخضر إلى أوروبا، فتحولت إلى قطب اقتصادي عالمي تتشابك عبره المصالح العالمية، وسيكون العالم حريص على استتباب الأمن في هذه المنطقة.