تضم أرشيفات المحاكم المصرية والعربية وحتى الأجنبية آلاف الأوراق المتضمنة لجرائم الإخوان، جرائم نفذتها الأجنحة العسكرية المسلحة في: مصر وسوريا وليبيا وتونس واليمن وبعض دول أوروبا وأسيا بل وأمريكا ذاتها؛ فالتحقيقات التي أجريت حول تفجيرات 11 سبتمبر 2001 كشفت دورا للإخوان في دعم وتمويل عمليات أسامة بن لادن لتفجير برج التجارة العالمي.
جرائم وسلسال من الدم بدأ مع نشأة التنظيم على يد المؤسس والإرهابي الأول حسن البنا، غير البرئ من تلك الجرائم سواء بتأسيس الجناح المسلح أو بتدشين الأفكار الحركية والعقدية التي يحيا عليها التنظيم حتى الآن.
بيد أنّ بعضنا ينسى، أو أنّ التنظيم بأقسامه المختلفة يحاول جاهدا بكل ما يملك أن يمحوا آثار تلك الجرائم مستغلا عامل الزمن، فما عرفه الناس قبل عشر سنوات يختلف تماما عما يعرفوه الآن؛ بشكل أكثر تبسيطا فقد عشقنا جميعا مطربي جيل التسعينيات وكانوا نجوم اللحظة، حتى موسيقاهم كانت المسيطرة، أما اليوم فنحن نسمع جيلا آخر وعالما آخر وانتقل جيل التسعينيات إلى فتح المقاهي والكافيهات بحثا عن لقمة العيش.
وسواء انحصر عالمنا بين جيل التسعينيات أو ذلك الجيال الحالي فكلاهما لم يعرفه الناس أيام أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، سواء على مستوى اللحن أو الكلمات، ذلك ما يعرف بعامل الزمن والتغيير!
أعطيت مثالا بسيطا حتى أقرب الصورة، ونستطيع أن نطبق ذلك المثال على كل شيء نحياه، فقد عرفت مصر في النصف الأول من القرن العشرين الشكل الأول للجماعات الدينية المتطرفة في ظاهرة شباب محمد، التنظيم المنشق عن تنظيم الإرهابي حسن البنا، بالتوازي أسس البنا النظام الخاص – الجناح العسكري المسلح – للجماعة، والذي نفذ عملياته في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، استهدف بها القاضي المصري أحمد الخازندار ورئيس وزراء مصر أحمد ماهر باشا ومحاولة اغتيال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.. إلخ
ثم انتهى ذلك العصر للدرجة أن آخرون انضموا للجماعة مرة أخرى في الستينيات وقبض على شباب في مراحل التعليم الثانوي والجامعي ضمن تنظيم 1965 بقيادة سيد قطب منظر الإرهاب الأشهر في العالم بين الإسلاميين، وبعد إعدامه تأسست مجموعات جهادية ثأرا لإعدامه دون ترتيب أو تنسيق منها، فقط تأثرا بأفكار قطب والإخوان، بعضها كان في الجيزة وأخرى في المعادي، كان المشترك بينهم حضورهم دروسا دينية في مسجد قولة بحي عابدين التابع لجماعة أنصار السنة المحمدية على يد الشيخ محمد خليل هراس، والمشترك الثاني أنّ بعضهم طلاب في الثانوية أو التعليم الجامعي، وكان من بينهم أيمن الظواهري الذي سيصبح لاحقا أميرا لتنظيم القاعدة على مستوى العالم.
في جميع تلك المراحل جاهد تنظيم الإخوان حتى ينفي أى علاقة له من قريب أو بعيد بتلك التنظيمات المتطرفة، ودائما ما كان ينجح معتمد على قدرته مجابهة عنصر الزمن والتغيير، وأنّ عشر سنوات في عمر الأوطان ليست شيئا لكنها في أعمارنا كبشر كل شيء، وأسس لذلك لجانا داخل التنظيم للعمل على تطهير الجماعة من جرائمها بشكل دائم، فهناك لجانا للدعوة وأخرى للتربية وثالثة للاقتصاد وحركة الأموال واستخدامها في شراء الذمم والسياسين، ورابعة للفكر وتلك أخطرهم ولا تقل سرية عن النظام الخاص للتنظيم، والخاصة باختراق المؤسسات البحثية والثقافية واستمالة من يصلح استمالته وشراء ذمم آخريين، بالتالي فليرحل أعضاء مكتب الإرشاد أو يعدموا، ستظل الأفكار في صناديق خاصة يحرسها آخرون في دول أخرى يوظفونها وقت الحاجة!
قد يرى بضعنا أن تلك مسألة معقدة وهم محقون في ذلك إذا نظرنا للمسألة بعين الإنسان الذي تغيره الأعوام، وينتهى به الأمر إلى الموت وهي سنة الحياة، لكن الجماعات والأفكار والأوطان والأديان فلا تموت، بل تكبر وتنتشر وتستمر، فقد اغتيل حسن البنا عام 1949 وأعدم سيد قطب عام 1965، ومات مصطفى مشهور عام 2002، وقتل أسامة بن لادن عام 2011، وقتل أبو العلا عبد ربه في سوريا عام 2017 بعد خمسة عشر عاما من مشاركته في اغتيال الشهيد فرج فودة، وأعدم هشام عشماوي قاتل الشهيد أحمد منسي عام 2020، ومات أيمن الظواهري الذي أغرق القاهرة في الإرهاب فترة التسعينيات عام 2022. ومع رحيل هؤلاء يظل بيننا من يرد عليك ذلك الرد السمج شديد الوقاحة:"هو كل حاجة إخوان؟!".
جميع ما سبق يعتبره بعضنا في إطار التاريخ، وتلك حقيقة لا نستطيع أن نرفضها، فالناس لابد لهم الوقوع تحت عجلة التغيير وسنته، لكن التغيير بالنسبة للجماعات الدينية المتطرفة يحدث فقط في اختراع آليات أكثر ذكاء للقتل والإرهاب؛ والمتابع للعمليات المتطرفة التي نفذها التنظيم بعد ثورة يونيو 2013 سيتأكد من ذلك، لكن لنتوقف هنا لحظة، وهل استمرت عمليات الإرهاب بعد 2013؟
يعيش بيننا الآن جيل لا يعرف شيئا عن ما عشناه بعد 2011، فقد مضت عشر أعوام كاملة، وكما قلت في بداية المقال، فعشر أعوام في عمر الإنسان كل شئ، لكنها في عمر الأوطان ليست شيء، سيرد أحدنا أننا قدمنا أعمالا درامية ووثائقية سجلت ما حدث وبثته للناس على مدار السنوات الأخيرة، سأقول إنّها محاولات مهمة ووطنية ويجب دعمها حتى تستمر، لكنها هي الأخرى معرضة لعامل الزمن والتغيير والنسيان، بمعنى أدق، أننا نحتاج كل عشرة أعوام لعمل بنفس عظمة مسلسل الاختيار، وبطلا بنفس بسالة الشهيد منسي، وقلما حرا يوثق تلك الجرائم، حتى لا نقع فريسة النسيان، وحتى لا يهزمنا الإخوان بالزمن!
0 تعليق