شارع البُحتُرى خليج نيوز

شارع البُحتُرى خليج نيوز
شارع البُحتُرى خليج نيوز

تتأوه ندى تأويهة تشق الضلوع قبل أن تخطو بعينيها حيث يجلس اﻷب وعلى يساره الأم وبقية الأخوات. 

تتنهد ويتهدج صوتها وهى تغمغم: ما أجمل الوحدة!

فتزغر لها الأم بضيق، ويتململ الأب فى جلسته كمن يجلس على قطع من الصخور المتفحمة!

تعلم ندى أن البقاء أمامهم والإبقاء على الحديث معهم لن يأتى بخير ولو حرصت!

- إنتى جمعانا وقاعدة ساكتة كأنك مش معانا؟!

تنطق الأخت الصغيرة بسجية اﻷطفال، وينفجر الجمع الآخر بضحكات تشى بالسخرية والحرص على التندر، وبينهما تجلس ندى فى حضرة الصمت. 

لم تدم تلك الحالة كثيرًا، التى قطعتها أصوات الطلقات الواردة من ناحية المجهول بعدها أصاب الحضور نوعًا من الهرجلة والتحرك بشكل عشوائى بُغية التخفى وخشية الموت. وأصيبت ندى بذات الحالة من التخبط والحرص على الاختباء خلف أى شىء لتضليل تلك القذائف الغادرة، فراحت تلملمُ فستانها الفضفاض وألقت بنفسها خلف إحدى الحوائط المطلية بظلام الليل، قبل أن تصيب بحذائها قنديلًا زيتى يرجع أصوله إلى العهد الرومانى، كان قد وضع على عرق خشبى يعتلى هذا الجدار فسقط على الأرض وغربت أشعته الذهبية باستحياء كما تغرب الشمس فى مُقتبل المساء، ثم عمَّ الظلام.

بعدها أخذت تتحسُ بعينيها ردهة المنزل فتفاجأت بخلائه من كل شىء عدا قطتها صاحبة العينين الزرقاوين اللتين لمعتا فى وسط تلك القطعة المعتمة من المنزل، فراحت تلوحُ لها بإشارة لم ترها ولكنها تتبعت انبعاث همهماتها الراجية، فانطلقت القطة على عجل لتقفز بين ذراعى ندى، فى ذات الوقت الذى تحولت فيه تلك الرصاصات نحوهما بعدما أحدثت صوتًا جليًا على إثر تساقط كوم من الأوانى المعدنية المهملة فى منتصف المنزل. 

ركضت ندى وهى تطوق قطتها بذراعيها، فاستقام والدها من وراء مُرتفع قوامه بعض العروق الخشبية كان قد أحضرها منذ أيام ليعلو بالمبنى درجة أخرى، وأرشدها بأن تُبقى على نفسها حيث مَوضعها، بعدما أعاد القِنديل إلى مكانه وأشعل فتيلهُ مرة أخرى، غير أنها كانت تعلم أن الانصياع لقول أبيها يعنى الهلاك والموت، فتركته دون أن تمهله وقتًا اضافيًا ليرسل لها تحذيراته الغامضة.

فى ذات الوقت الذى تعاونت فيه الأم وبقية الأبناء عدا الصُغرى على منعها من الخروج وتحقيق ما تخيرته لنفسها للإفلات من موت مُحقق لا تعلم ماهية الحرص عليه من قِبل أبيها وأمها وكذا أخوتها؟!

انحرفت أخيرًا ناحية عطفة صغيرة وهى تهرول حافية الأقدام، حبيسة الأنفاس، بعدما طوت ذيل فستانها، ناصحة قطتها بأن تَبقى هى الأخرى على غرارها لا صوت، لا حركات فاضحة، كى لا تسترشد تلك الرصاصات وتعلم موضعنا. هكذا همست لها. 

وفجأة وجدت ندى باب النفاذ إلى شارع البُحترى بعد حارات كثيرة ودروب ملتوية، ذاك الشارع الذى يوجد به بيت جدها التى حرصت على الذهاب إليه للاستنجاد به بعدما أحست أن هناك أمرًا دُبر لها بليل يشبه تلك الليلة الكحلاء.

ها هو المنزل ذات الأصول القديمة والباب الخشبى العالى، قد انفرج عن آخره، دلفت سريعًا وهى تحتضن قطتها بينما السواد يغطى كل شىء والظلام حالكٌ لا مُحال.

أما عن البيت فهو ساكنٌ كالجبال. لا يوجد به حركات مؤنسة ولا أرواحٌ ماكثة.

تستدير حول نفسها كمجنون فى ساحات من السكون، وتطلق نداءات مُستغيثة بلا جدوى.

هل مات جدى دون أن يُعلمنها أحد؟!

هذا الرجل صاحب التسعين عامًا من الشقاء وحب الصلاة فى رحاب السيدة زينب ووسط الأولياء، هل رحل دون معرفتنا؟!

مَكثت ندى فى إحدى الحُجرات التى أخذت شكلًا على هيئة القُبة، كان جدها يحرص مليًا على الجلوس فيها للتسبيح والتهليل وحسب.

تتذكر الآن تلك الكلمات التى كان يلقيها عليها بأن هذه الحجرة تكفيه عن كل شىء، الصيف فيها شتاء، والمكوث فيها محبة، والذكر فيها إيواء ودواء، ولا حاجة لى من الدنيا بعد ذلك.

صوت الباب العال ينفرج وصريره لا تخطئه أذناها.

تتحرك بهدوء عاصف منزوية خلف خزينة متهالكة صُممت على هيئة طوابق مصنوعة من أخشاب البلوط ومعها قطتها ترقب القادم من زواية خفية.

هل هو جدها؟!

هُنيهة ويشخص أمامها جسدٌ ضئيل، يلقى بظلاله على أرضية الغرفة، وأنفاس لا تشى بأن القادم هو جدها.

إذن من يكون؟!

تسحبت للخلف بشىء من الحرص وتكور جسدها البض تأهبًا للهروب والانسحاب دون أن يراه رائى. وتملك من عقلها أن الآتى هو لصٌ دءوب طابت له سرقته وسط هذه الأجواء المُعتمة!

وما إن استدارت حتى وجدت نفسها أمام أختها الصغيرة التى تتبعت سيرها وعلمت بما يُحاك لأُختها الكُبرى بعد أن ترصدت والدها وهو يوصى أحد الرجالات عتيد الإجرام، بأن تكون الطلقة صوب القلب حتى يحدث الموت السريع دون أن تُكلفنا مَليمًا واحدًا على مَشفاها.. هكذا قال.

وبالطبع كان واضحًا أن المُشار إليها هى ندى!

نظرت الأخيرة إلى أختها نظرة تتخللها الدموع فهى لا تدرى فائدة ما سيصنعه موتها فى حياة هؤلاء الأشقياء بعدما استقر فى وجدانها صحة ما شعرت به بأنهم يريدونها قتيلة على أقل تقدير! 

إنه البلاء الذى إذا حل على قوم شرد بهم. هكذا تمتمت قبل أن تقترب من أختها مُتحصنة بالبُكاء: علينا الرحيل الآن، هل ستُرافقينى أم تودين البقاء؟

أمسكت الصغيرة بذيل فستان أختها كطفل تاه من أبويه، وانصرفا خارج القبة قاصدين أى مكان يبعد عن بيتهما وبيت جدهما وشارع البُحترى بِعَبقه وعَواقبه.

 

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق نائب وزير الصحة يتفقد عدداً من المستشفيات بالإسكندرية ويوصي بصرف مكافأة للمتميزين - خليج نيوز
التالى برج الجوزاء.. حظك اليوم الثلاثاء 1 إبريل 2025.. لا تنشغل بالماضي - خليج نيوز