قطار الليل بطيء دوما، ينزلق فوق القضبان مثل لعبة يدفعها كف صبي واهن، تذكرت يوم قال لي أبي وأنا أنظر إلى الفاترينة: لا يمكن أن أشتريه لك وأطعم إخوتك في آن واحد. سحبت رغبتي نحو الداخل بغير دموع تظهر، أقول لنفسي: غدا سأكون ضابطا ومعي من المال ما يكفي كي اشتري هذا المحل كله.

أتسمع الى صفيره الآلي وهو يدور في الصالة، أنتظر البهجة فلا تأتي، قال لي أحد زملائي: لم أنت مولع بشراء لعب الأطفال؟
قلت: هي هواية مثل جمع الطوابع، أحضر اللعب وأنتظر الأطفال، مرت الأعوام وأنا أنتظر ولكن يكفيني أن أنزل إلى دور الأيتام كل عام ببعض من مقتنياتي، كفيلة هي أن تسعد الكثيرين منهم إلا أنا..
الوحشة تندفع من نوافذ القطار مع الرياح الخشنة مؤلم جدا أن يمر كل هذا الوقت وأنا جالس في قطار، طول الوقت ينذر بابتعادي عن أرضي وناسي ليتني احضرت معي جلباب أبي الكشمير الذي لم يترك لي غيره ولكنني تذكرت أنه ثقيل على جو الصعيد فعدت ببصري إلى القطار وهو يدور في الصالة وزوجتي تكتم غيظها من أفعالي ولما تنفجر تختلي بمهاتفة أمها لتخبرها أنني قد صرت مجنونا رسميًا، والأخرى توصيها بالصبر، تظن أنني لم أسمع، هه. أنا اسمع كل الحروف يا حبيبتي، أليس من حقي أن أعوض ما فاتني من جرعات اللعب؟
لمَ لم ترتدي التنورة الحرير القصيرة وتجلسي لتلعبي معي؟
نظرت وعبست وبصقت في منديلها ونامت..
حرارة الجو ترتفع كلما يغوص القطار في الجنوب يلتهم برغم بطئه القرى والأشجار
أبي يوصيني أن أكتفي بالثانوية العامة كي أخفف الحمل عن كاهله..
أوافق بعين منكسرة وأنا أسحب رغبتي في امتلاك القطار نحو الداخل زوجتي تلملم ملابسها في حقيبة وتغادر..
القطار يكسر حاجز السرعة وكأنه قد امتلك وقودا اضافيا، الظلام يرتفع قليلًا ينبئ بقدوم الفجر، المقهى ملئ بالرواد، يطلبون المشاريب ويتركونها أمامهم وينامون. يصرخ النادل: أيوة جاي.. وغرضه هو إيقاظهم.. يقف أمامي مرتعدا: تشرب إيه يا معالي الباشا.. مشاريب الباشا على حساب القهوة
عاد إلى صاحب المقهى القابع خلف طاولته العالية يصب الكلمات في أذنه والماركات في الصندوق..
ألقيت برأسي للخلف..
القطار يدور في الصالة ببطء يبدو أن بطارياته تحتاج إلى تبديل.
قام صاحب المقهى وظل يصافحني حتى تورمت كفي. ضحك بخبث وقال: نورت المركز كله يا سعادة الباشا. البيه المأمور مش هيقابلك قبل الساعة تسعة يبقى نفطر سوا..
سألت نفسي: كيف علموا أنني المخبر السري الجديد؟
■ إبراهيم معوض أحمد عضو نادي أدب قصر ثقافة شبين الكوم، مؤسس منتدى نوبة قراءة على الإنترنت.حاصل على جائزة النشر الإقليمي لعام ٢٠١٨-٢٠١٩ عن مجموعته القصصية (خارج حدود الرؤية).. صدر له مجموعات قصصية منها: خارج حدود الرؤية، وأحداث ما قبل الرصف، ورواية النورج والكتاب.. له عدة أعمال تحت الطبع.
