السبت 15/فبراير/2025 - 10:20 م 2/15/2025 10:20:40 PM
(١)
للتاريخ رجالٌ يصطفيهم بعناية لأكثر اللحظات قوة وأحيانا قسوة. يروقنى أحيانا تخيل نفس المشهد برجالٍ آخرين فأدرك أن هذه البلاد قد خصها الله وخص أبناءها بصفاتٍ خاصة، وكأنه قد اصطفاها واصطفاهم لتلك اللحظات الحاسمة التى يدفع فيها الحقُ الباطلَ ويُرى الناسَ آياته وهى تتحقق على أرضه.
فى ثلاثة أيام فقط شاهدنا على الهواء مباشرة ثلاثة مشاهد لثلاثة من ممثلى وقادة الحملة الاستعمارية الراهنة، المؤتمر الصحفى المفاجىء لكبيرهم مع ملك الأردن، ومؤتمر وزير دفاعه وهو يحدد للأوربيين ما يجب عليهم القيام به للاحتماء بظل حمايته، وتصريحات وزير خارجيته التى استبق بها زيارته لبعض دول المنطقة.
لطالما كنا نقرأ فى التاريخ عن تلك المشاهد..مشاهد رسل الحملات الاستعمارية التى تطلب من دول المنطقة الاستسلام دون قتال حتى يجنبوا أنفسهم وشعوبهم الجحيم. لكن مهما كان ما نقرأه من وصف المشاهد وثقل العبارات تبقى المشاهدة الحقيقية شيئا آخر مختلف.
غطرسة..وقاحة..بلطجة.. هذه المرة لم يتكلفوا تجميل عباراتهم لأنهم يعتقدون أنهم فى الفصل الأخير. فى الفصول السابقة كانوا يستخدمون بعض مساحيق التجميل، لكنهم يعتقدون أنه لا حاجة لذلك الآن. عبارة البلطجى فى رده عن مسوغات شراء غزة عبرت عن ذلك..قال ببساطة سنأخذها! وبوقاحة قال أتوقع أن مصر والاردن ستوافقا على إخلاء غزة من أهلها!
فى سنوات حكم مبارك الأخيرة كنا نسخر من جمود كل شىء وأن جيلنا لم يشاهد أحداثا تاريخية هامة فى مصر..فها نحن نشاهد كل شىء كنا نقرأ عنه.. نشاهد رسل هولاكوا فى فيلم أحمد مظهر..أمراء الطوائف وقرامطة العصر الحديث الذين يقومون بهدم الدول من داخلها ويمهدون الأرض للحملات الاستعمارية رأيناهم ورأينا كيف يفعلون ذلك.. جماعات مسلحة تنهش الدول حتى تضعفها وتقدمها لقم سائغة لكل حملة قادمة.
وزير خارجية البلطجى يضع شروطه الاستباقية لكى يمنحنا السلام! على الدول العربية الرافضة للمؤامرة أن تقدم بديلا نقبله وبشرط عدم وجود المليشيا التى يدرك أنها من مفردات وجنود حملته! فصل كامل من تاريخ المنطقة وحملة استعمارية مكتملة نعاصرها ونعاصر مراحلها حتى وصلنا لنقطة الفصل والحسم، إما أن يتم إعادة توزيع المنطقة كغنيمة أو كرجل مريض آخر بين عتاة الصهيونية أو يتم كسر الحملة وكتابة تاريخ جديد تماما. لا حلول وسط.. هذا ما تنبىء به هذه الوجوه الوقحة المتغطرسة!
(٢)
هذه المشاهد الرئيسية الثلاثة وما صاحبها من تقافز قادة الكيان انتشاء وانتفاخا بها - ورغم ما تكشفه من ثقل حجم التحدى الذى يواجه المنطقة ومصر بصفة خاصة – هى من قبيل عدل الأقدار وإنصاف السماء لقيادات مصر.
هو عدلٌ لم يتمنوه أو يطلبوه، لكنه جزءٌ من أقدارهم. منذ ثلاثة سنوات ناقشتنى صديقة مثقفة جدا فيما كتبته عن محاولة غزو الهكسوس المعاصرة لمصر منذ أربع سنوات، وما أكتبه من مقالات عبر سنوات عن التحذير من هذا الغزو، وأن كل ما حدث فى مصر منذ عام ٢٠١١م إنما كان جزء من هذه المحاولة.
وجادلتنى فى شخصية السيسى وما يقوم به على الأرض وكأنه فى سباق محموم لإدراك أو الإعداد للحظة معينة. أخبرتنى أننى ربما أكون قد سقطت فى فخ فوبيا تكرار حوادث تاريخية بعينها جراء الإنغماس أكثر مما ينبغى فى قرائتها، وأننى ربما أشبه سلامة أو حسين رياض والناس تتهمه بالجنون وهو يحذرهم من غزو التتار!
من فرط ما كنا نواجهه من حملات تشكيك كدتُ أشك فى قواى العقلية، فلقد كان الباطل صوته زاعقا صارخا واستطاع فتنة كثيرين!
سألتها وماذا عما يقوم به السيسى على الأرض؟ قالت لا أدرى ولا أفهم. كانت صديقتى المثقفة ممن تأثروا بالآلة الإعلامية الجهنمية التى دأبت على محاولة إجهاض ما يقوم به السيسى من تعظيم قدرات مصر العسكرية وتحديث البنية الأساسية اللوجستية والاهتمام بالمخزون الاستراتيجى. لا أزال أذكر تساؤلاتها عن الصوامع والسحارات والطرق والكبارى والأسلحة فى وقتٍ كانت مصر تمر بأزمات اقتصادية خانقة.
اتفقنا على نقطة واحدة. أن شخصية السيسى استثنائية ولا يمكن أن تكون شخصية رئيس عادى. واختلفنا فى نقطة، فبينما أرجأت هى رؤيتها لما سوف تسفر عنه الأيام من أحداث، فقد حسمتُ رؤيتى له. قالت أنه لن يكون إلا واحدا من رجلين، أن يكون كما أقول أنا بأنه رجلٌ اصطفته الأقدار لمصر لمواجهة اللحظة، أو كما تقول عنه الصفحات المغرضة. أما أنا فلم تهتز ثقتى فى الرجل مطلقا وأرى وجوده متسقا مع حركة التاريخ.
لقد أنصف التاريخُ برغم قسوة المشهد القيادة المصرية، وكشف المؤامرة كاملة أمام العالم بأسره. أثبتت المحنة صدق وشرف ووطنية القيادة المصرية ووعيها وإدراكها المبكر لما يحدث، وتحملها كل هذه السنوات موجات الهجوم والتشكيك ولم تضعف ولم تتوان عن استكمال تجهيز مصر لهذه المواجهة.
(٣)
هناك قصة ساخرة فى تراث القرى المصرية تقول أن القط والفأر اتفقا على الصداقة وأن يتنزها معا فى مركب شراعية ويتبادلا التجديف. بدأ القط فجدف قليلا ثم استراح متكئا تاركا الفأر يقوم بالمهمة..ثم بعد قليل بدأ القط فى التململ ناظرا للفأر وقائلا - وهما فى وسط المياه - مش تحاسب بتجيب التراب عليا! ففهم الفأر مقصده واستسلم قائلا لو عايز تاكلنى كلنى من غير استهبال!
تذكرت هذه القصة وأنا استمع لوزير خارجية البلطجى وهو يردد عبارات عبثية..هناك دول فى المنطقة تقول أنها تهتم لأمر الفلسطينيين ثم لا تريد أخذهم عندها...الفلسطينيون يعيشون حياة صعبة! عبثٌ كامل.. وكأن هذه الدول تقوم بدور الجارية التى تخدم السيدة الصهيونية وعليها أن تتحمل جرائمها!
عفوا أيها المتغطرس..فهذه الدول الداعية للسلام العادل ليست جرذانا عليها تقديم نفسها لوليمة القط وأنت لست القط..نحن دولٌ مثل دولتك..رأسا برأس وجيشا بجيش وكرامة بكرامة. ولا أرى أوهامك بأن يقوم المصريون بفتح ثغورهم طائعين إلا دليلا على جهلك وغباء مستشاريك!
(٤)
هل ستنتصر مصر؟
قطعا ستنتصر. بل إن مصر قد قطعت شوطا مهما فى طريق هذا الانتصار. نجحت مصر عبر دبلوماسية قوية فى تكوين رأى عام دولى وإقليمى وعربى قوى لا يرفض فقط بل يستهجن هذه الخطة الاستعمارية. ونجحت مصر فى الإبقاء على اتفاق وقف إطلاق النار حسب المراحل المتفق عليها.
ونجحت مصر منذ مباحثات الرئيس السيسى مع الملك عبدالله بعد بدء العدوان الصهيونى مباشرة فى تدشين جبهة مصرية أردنية متوحدة متماسكة ضد مؤامرة السطو على أراضى الدولتين.
وحققت جزء من النصر بالتصدى لوقاحة الصهيونى ضد المملكة السعودية لخلق جبهة عربية متماسكة لا تشمل فقط دول الطوق بل جميع الدول العربية الفاعلة.
وكانت مصر قد حققت جزءً من هذا النصر منذ سنوات بتأمين حدودها. وحققت جزء من هذا النصر فى التفاف الدول العربية حول رؤيتها.
وتوقعى أننا لن نصل لمرحلة المواجهة العسكرية. لكن لكى نبلغ تمام هذا النصر علينا القيام بجهد كبير لإفشال مخطط ضرب الاصطفاف العربى.
لقد نشطت هذه الأيام محاولة شق هذا الصف وتأليب شعب كل دولة على باقى الشعوب. محاولة مكشوفة بدأت باستهداف الأردن رغم أن موقف ملك الأردن فى منتهى الوضوح والقوة. فالرجل قال صراحة أنه مع صالح بلاده، وأنه ملزم بالموقف العربى، ورؤية مصر، وعرضه بعلاج ألفى طفل فلسطينى لا يعنى إطلاقا عكس ما صرح به.
على المصريين ألا يسقطوا فى الفخ. أى تلاسن عربى شعبوى فى هذه المرحلة يصب فى صالح الحملة الاستعمارية..منطق ومبدأ العجوز الشمطاء..فرق تسد!
على المثقفين والإعلاميين المصريين دورٌ كبير وعدم ارتكاب خطأ فادح أرى بعضهم على وشك السقوط به..
فمواجهة مصر الآن تخص الدفاع عن أرضها. وترويج عبارات مثل عدم الوقوع فى مواجهة من أجل مخابيل حماس هو ترويج لرؤية غير دقيقة. فمواجهة مصر الآن وطنية خالصة. لأن المستهدف هو استقطاع جزءٍ من أرض مصر. أما مسؤلية إزاحة حماس من المشهد فهى مسؤلية فلسطينية بالمقام الأول، وعربية بالمقام الثانى، وليست مسؤلية مصرية خالصة.
(ه)
على المصريين الإنتباه لفخاخ منصات الإخوان، وأول أكاذيبهم الآن محاولة خلط الأوراق وتصوير الأمر أنه مساومة مصرية على السعر!
هم خونة بالوثائق، ويريدون أن يلصقوا بالقيادة المصرية ما ثبت عليهم وسجله التاريخ. فتاريخ خطة التهجير يثبت قطعا أن الحكومة الملكية المصرية عام ١٩٥١م هى فقط من قبلت هذه الخطة وعلى أساسها تأسست الأونروا. ثم أجهضها الفلسطينيون – قبل ظهور حماس – والمصريون بعد ثورة يوليو. ورفضها مبارك بعرض مباشر من مارجرت تاتشر وكان معه دكتور أسامة الباز. وقبلها واتفق عليها الإخوان وقبضوا الثمن! هذه حقائق التاريخ. المؤسسة المصرية الصلبة لا تفرط ولا تخون.
ثانى أكاذيبهم محاولة التعتيم على دعايات الخيانة بعد أن اسقطهم المصريون حين كانوا يهاجمون خطط تسليح الجيش المصرى عبر بث برامجهم من خارج مصر. الآن يروجون أن الخطة قائمة على أجندة الدولة المصرية طالما بقيت سيناء فارغة! يريدون التشويش على كل ما قامت به مصر من خطط إعمار لسيناء وكل ما قامت بتشييده من بنية أساسية.
جماعة الإخوان تنتظر سقوط مصر لكى تعود للحكم على غرار تلك الدولة التى صهينت على اقتطاع أجزاء من أراضيها مقابل تمكين جماعة الإسلام السياسى من الحكم!
جماعة الإخوان جماعة خائنة ترى فى المشهد الحالى إحياءً لأوهامها فى العودة للحكم على دبابات الحملة الاستعمارية حتى لو كان الثمن التنازل عن جزء من أرض مصر. كل جماعات الإسلام السياسى خونة أوطان.
(٦)
لن يُسقط أوهام هذه الجماعة سوى المصريين. لقد بدأ أذنابهم يتخفون بين صفحات المصريين ويطلقون عبارات الاصطفاف الوطنى المشروط. حيلة خبيثة لاستدراج المصريين للانزلاق معهم فى فكرة المن على مصر بموقف المساندة. أى محاولة لفرض شرط على مساندة وطن فى معركته هى محاولة لضرب هذا الوطن. الأوطان لا تستجدى شعوبها للدفاع عنها، فهو شرف قبل أن يكون واجبا حتميا. على نشطاء المصريين إعادة فتح أرشيف الجماعة الخائنة وتذكير عموم المصريين بمشاهد خيانتها حتى لا يسقط المصريون فى الفخ. ذكروا المصريين بمشاهد الموافقة على بيع سيناء. ووثائق إيميلات هيلارى كلينتون.
ونحن الآن لا يجب أن نكتفى بدخول التاريخ ولكن يجب أن نكتبه. وسوف نكتبه حتى لو بالدم. سوف ندخله من أقسى أبوابه لكى نحفظ لهذا الوطن استقلاله وشرفه.
هناك ثمن سندفعه قطعا.لكن مهما يكن فنحن مستعدون لدفعه ولن نفرط فى شرف بلادنا. مستعدون للحملة المتوقعة بحصار اقتصادى ممنهج. لن نبخل بما نملك فى سبيل التصدى لهذه التوابع. المصريون تعودوا على شظف العيش والشقى الرجولى. لقد خرجت سيدات مدن القناة بأغطية أوانى المطبخ وأوقعن خسائر فى صفوف قوات العدوان الثلاثى. نحن شعبٌ مهووس بانتمائه لأرضه. هذه هى الحقيقة فلا يُخشى على وطنٍ هذه سمة أبنائه.