في بلد يشهد انكماشاً سياسياً واقتصادياً، يقترب موعد الانتخابات البلدية والاختيارية المرتقبة ولا شيء يوحي بأنها ستكون مناسبة لاستعراض القوة السياسية بقدر ما ستكون كشفاً لضعف الأحزاب في ميادينها الداخلية. وعلى خلاف الانتخابات النيابية، التي يمكن فيها للأحزاب أن تُخفي هشاشتها خلف شعارات وطنية أو تحالفات مركزية، المعركة البلدية لا ترحم، إذ تحدث في الزوايا الصغيرة، بين أبناء العائلة الواحدة، حيث لا تنفع الأيديولوجيا ولا الخطاب العام، بل تُفكَّك التحالفات وتنكشف التناقضات وتنفجر الخلافات التي تُحرج الجميع.
Advertisement
أمام هذا الواقع، تبدو بعض الأحزاب السياسية مربكة وغير مستعدّة، فكل شيء في هذه المرحلة يوحي بأنها في أضعف حالاتها. لذلك، ومنذ لحظة الحديث عن إجراء الانتخابات، كانت أغلب القوى السياسية تميل لتأجيلها، والسبب الحقيقي لا يقتصر على الجهوزية الإدارية، بل يمتدّ إلى الخوف من انكشاف العجز الصارخ عن تشكيل لوائح موحّدة وعن بناء التحالفات، ما يؤشّر الى أن الانتخابات البلدية ستجري على أرض سياسية تبدو مأزومة. من هنا رأت بعض الأحزاب في التأجيل فرصة ملائمة ومحاولة لشراء الوقت، بهدف تفكيك القنابل المحلية التي يدرك الجميع أنها ستنفجر مهما حاولوا الالتفاف عليها.
المفارقة أن خسارة الأحزاب، إن حصلت، لن تكون خسارة أرقام، بل خسارة صورة، وهذا ما يُفسّر سبب اتجاه بعض القوى إلى ما يمكن تسميته بـ"التلزيم السياسي الهادئ". إذ تلفت مصادر سياسية مطّلعة إلى أنه "في بعض المناطق، تم تفويض وجوه محلية نافذة لإدارة العملية الانتخابية "بالنيابة". هؤلاء، بحسب المصادر، لا ينتمون رسمياً للأحزاب، لكنهم يُدرجون ضمن "البيئة المتفاهمة" ويملكون مفاتيح اللعبة المحلية. وعبرهم، تحاول الأحزاب أن تمسك بالخيوط من الخلف من دون أن تتحمّل الكلفة المباشرة لأي نتيجة، سواء كانت فوزًا باهتاً أو خسارة قاسية". هذا السلوك، وفق المصادر، هو اتّجاه نحو ما يشبه التخفّي، تحاول بعض الأحزاب من خلاله أن تبقى حاضرة من دون أن تُمسّ صورتها بشكل مباشر.
بهذه الطريقة، تتحوّل الانتخابات إلى شبكة تحالفات غير معلنة، لا تُدار من المكاتب الحزبية، بل من العلاقات الشخصية والامتدادات الاجتماعية، ويجري فيها ترويض اللعبة السياسية لتفادي الصدام المباشر. وهي بلا شكّ ليست تسوية ذكية، بل محاولة للحماية من الخسارة، فكل حزب يدرك أن الانخراط المباشر في انتخابات بلدية معقّدة، ومليئة بتناقضات محلية، يعني الدخول في اختبار قد لا يُحمد عقباه.
غياب التحالفات السياسية الصريحة يعكس في جوهره أزمة قرار. الأحزاب لا تعاني من نقص في المرشحين بل من فائض في العجز، إذ لا تستطيع أن تفرض لوائحها ولا تملك القدرة على فرض التفاهم بين الفاعلين المحليين المتباعدين. وهكذا، تتنازل عن إدارة المشهد لصالح وجوه قادرة على اللعب محلياً، لكن بلا أي التزام سياسي واضح، ما يجعل النتيجة النهائية غير محسوبة بدقة.
بهذه المقاربة، تتحوّل الانتخابات البلدية من مواجهة حزبية واضحة إلى مناورات نفوذ تُدار بالوكالة، تتخلّى فيها القوى السياسية عملياً عن الاستثمار المباشر في الاستحقاق البلدي، ليس لأنها غير معنية، بل لأنها تتحوّط من الانكشاف. فهي تدرك أن المعركة في المناطق متشعبة ومعقّدة، ولا يمكن ضبطها بخطاب مركزي. ومن هنا، فإن التخلي الطوعي عن القيادة المباشرة للمعركة لا يُعد انسحاباً بل تحصيناً. وترى المصادر أن "هذا التوجّه هو خيار محسوب لحماية الهيكل السياسي من الانهيار المحلي، أو على الأقل لتفادي تصدّع صورته".
الاستحقاق البلدي المقبل لن يكون ساحة استقطاب سياسي أو مساحة لتوسيع النفوذ كما في السابق، بقدر ما يبدو محاولة للحد من الخسائر. فالتحالفات الغائبة والتلزيمات الموضعية، كلها تعبير عن عجز بنيوي في التنظيم السياسي، وعن فقدان السيطرة في ميدان كان يُفترض أن يكون الأقرب إلى قاعدة النفوذ. فهل يترجم الاستحقاق البلدي لحظة سقوط سياسية مدوية؟!