قوانين أقرها البرلمان العراقي تثير الجدل في مقدمتها تجريم الكحول
في 22 ديسمبر/كانون الأول 2016، وخلال جلسة برلمانية مخصصة لمناقشة قوانين خدمية ومالية، فُوجئ النواب بإدراج مادة تمنع استيراد وبيع المشروبات الكحولية ضمن قانون جباية البلديات. الفقرة، التي لم تُعرض على اللجان المختصة، مرّت بسرعة وسط ارتباك، وضغط سياسي مكثف، جاء من كتل موالية لإيران.
قرار بهذا الحجم، كان يُفترض أن يمر عبر نقاش وطني… لكنه فُرض بوصاية، لا بإرادة العراقيين ورغم أنه تطبيقه ظل معلقا لأكثر من 7 سنوات إلا أنه يعود اليوم ويفرض بالقوة.
في هذا التحقيق، نعيد رسم خط سير القرار، من لحظة تمريره المباغتة داخل قبة البرلمان، إلى آثاره الممتدة على المجتمع، والاقتصاد، والحريات، والسيادة.
قبل أن تبدأ سهرتك في أحد نوادي بغداد الليلية، عليك أن تعبر سلسلة من المراحل التي باتت تشكّل الطقس الجديد للحياة الليلية في العاصمة. عند المدخل الأول، يستقبلك رجال أمن يرتدون بزّات رسمية، يعملون لصالح شركات مرخصة من وزارة الداخلية، مهمتهم تفتيشك بدقة لمنع إدخال أي نوع من الأسلحة.
وما إن تتجاوز هذا الحاجز، حتى تنتقل إلى عالم مختلف: باب ثانٍ، أضواؤه خافتة، تقف عنده شابة أنيقة، تبتسم لك، تمدّ يدها الناعمة وربما تطبع قبلة سريعة على خدّك. مهمتها ليست فقط الترحيب، بل ضمان أنك ستجلس على طاولة حُجزت مسبقاً، غالباً مقابل مبلغ غير زهيد. ملابسها الضيقة ولمستها اللطيفة جزء من طقوس المكان، المصمّمة لتحفيز الزبائن على الاسترخاء والإنفاق.
لكن هذا المشهد، الذي كان إلى وقت قريب رمزاً من رموز بغداد الليلية، بات اليوم أقل حضورا وهو ينحسر شيئا فشيئا. فبعد سلسلة قرارات حكومية بحظر استيراد وبيع المشروبات الكحولية، أُغلقت عشرات الحانات والنوادي، لتتحول ليالي العاصمة إلى ما يشبه “الضوء الخافت في آخر الممر”.

محلات لبيع الكحول في شارع النضال وهي مغلقة.
في قلب جانب الرصافة من بغداد، يمتد شارع النضال، أحد أقدم الشرايين التجارية وأكثرها شهرة. لطالما كان هذا الشارع ينبض بالحياة مع غروب الشمس، حيث يتزاحم المارة بين المحال التجارية والمولات الصغيرة التي اشتهرت ببيع المشروبات الكحولية واحتضانها لنوادٍ ليلية تستقطب جمهوراً واسعاً لكن تلك الحياة الليلية الصاخبة انطفأت فجأة.
اليوم، يسود الشارع صمت ثقيل، وتحلّ نقاط التفتيش الأمنية مكان الزبائن والسهرات. القرار الحكومي بإغلاق محال بيع المشروبات الكحولية والنوادي الليلية ألقى بظلاله على المكان، فبات مظلماً، هادئا، يفتقد لنبضه المعتاد.
غير بعيد، وعلى بعد أقل من كيلومتر واحد فقط، تنبض الحياة في اتجاه آخر. داخل فندق بغداد، أحد أفخم فنادق العاصمة، تعمل نوادٍ ليلية و”نايت كلابات” دون مواربة. تقدم هذه الأماكن لروادها كل أنواع المشروبات الكحولية، ولكن بأسعار مضاعفة عمّا كانت عليه قبل عام 2023، حين بدأ تطبيق قرار الحظر.
حاولنا دخول أحد تلك النوادي، لكن التصوير كان ممنوعاً. في الداخل، الأضواء خافتة والموسيقى عالية، والطاولات تمتلئ بشباب وفتيات من أعمار متفاوتة. بعض النساء يعملن داخل المكان؛ يظهرن بابتسامات جاهزة وملابس لافتة، يجلسن مع الزبائن، يشاركنهم الفواكه والمقبلات والمشروبات، ثم يطلبن بدورهن مشروبات يدفع ثمنها الزبون.
تُشعل الأغاني الإيقاعية حماسة المكان، ويبدأ الزبائن بدفع الإكراميات، أحياناً بسخاء، في محاولة لشراء لحظة من الاهتمام أو المتعة. لكن ما إن تنتهي السهرة، حتى تصطدم الغالبية بفاتورة قد تتجاوز 250 دولاراً لشخصين، سعر يتباين حسب نوع الخدمة والمشروبات المختارة.
ورغم التكلفة الباهظة، لا مفر. فمع إغلاق معظم النوادي والبارات في المدينة، باتت هذه الأماكن القليلة بمثابة الملاذ الأخير لمحبي السهر والكحول في بغداد.

من داخل أحد الملاهي الليلية في بغداد.
تطبيق انتقائي؟
لكن السؤال الذي يتردد اليوم على ألسنة كثيرين، من روّاد الحياة الليلية إلى أصحاب المحال المغلقة، لا يزال بلا إجابة واضحة:
لماذا تُغلق الحانات والنوادي الصغيرة، بينما تستمر الصالات الفاخرة والأكبر حجماً في العمل دون عوائق؟ ولماذا يبدو أن القانون يُطبّق بشكل انتقائي؟
يشير بعض أصحاب المحال إلى شبهات تحيط بعملية تطبيق القرار، متسائلين عن صحة الأنباء التي تتحدث عن ضغوط مارستها فصائل مسلحة نافذة دفعت باتجاه تشريع القانون وتنفيذه بما يخدم مصالحها، لا القيم التي تُرفع كشعارات، مثل النظام أو الديمقراطية أو حماية الأخلاق العامة.

محلات بيع المشروبات الكحولية في الموصل تستقبل الزبائن وسط النهار.
وراء هذه التساؤلات، خلفية دامية من العنف والترهيب. منذ عام 2004 وحتى 2021، شهد العراق، وتحديداً بغداد، سلسلة هجمات استهدفت محال بيع المشروبات الكحولية وأصحاب النوادي الليلية. تبنّت تلك العمليات جماعات مسلحة تحمل أسماء مثل “أصحاب المعروف” و”ربع الله” و”حزب الله”، وكلها كيانات على صلة بفصائل مرتبطة بإيران.
كان أسلوبها واضحاً: تفجير المحال التي ترفض دفع “الجباية” أو لا تلتزم بشروطها، خصوصاً في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية الإيرانية. لكن هذه العمليات تراجعت بشكل ملحوظ بعد عام 2022، مع تعزيز الحكومة العراقية سيطرتها الأمنية، ونشر قواتها عند مداخل ومخارج الأحياء الحساسة، من الأعظمية إلى زيونة.
وربما كانت الهجمات التي وقعت في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2020 هي الأكثر عنفاً. يومها، استُهدفت عدة محلات لبيع الكحول في حي الكرادة بعبوات ناسفة، ما أدى إلى وقوع إصابات بين المدنيين، وأضرار مادية جسيمة، واندلاع حريق في أحد المحال.
![برلمان بلا سيادة: كيف جرّم العراق الكحول تحت عصا النفوذ الإيراني؟ 4 محلات تضررت جراء انفجار وقع في 23 حزيران/يونيو 2020 بمنطقة الكرادة ببغداد ألقيت باللائمة فيه على ميليشيا موالية لإيران، ومن بينها محلات لبيع الكحول. [الصورة من صفحة الكرادة على فيسبوك].](https://cdn.alaan.tv/2025/05/09/20250509-1746783668934-original.webp?ext=jpg&size=1024x1024)
محلات تضررت جراء انفجار وقع في 23 حزيران/يونيو 2020 بمنطقة الكرادة ببغداد ألقيت باللائمة فيه على ميليشيا موالية لإيران، ومن بينها محلات لبيع الكحول. [الصورة من صفحة الكرادة على فيسبوك].
تقاطع التحريض مع العنف
وفي تطور يعكس تقاطع العنف مع الخطاب التحريضي، أبدى أبو علي العسكري، وهو شخصية بارزة في ميليشيا “حزب الله” المقرّبة من إيران، دعمه للهجوم عبر منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أشاد باستهداف محال بيع المشروبات الكحولية في نهاية شهر حزيران/يونيو، ما اعتُبر حينها بمثابة غطاء سياسي ضمني لمثل هذه الاعتداءات.

منشور منسوب لأبو علي العسكري على موقع تيليغرام.
اللافت أن معظم الهجمات التي استهدفت محال بيع الكحول وقعت قبل نحو عامين من دخول القانون المثير للجدل حيّز التنفيذ، رغم أن البرلمان العراقي كان قد أقرّه بالفعل في عام 2016 ضمن فقرة في قانون “واردات البلديات”.
فالمادة 14 من القانون رقم (1) نصّت بشكل واضح على “حظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بكافة أنواعها”، لكن تطبيق هذا النص بقي معلقاً لسنوات، إذ لم يُنشر في الجريدة الرسمية الوقائع العراقية—وهو الشرط القانوني لدخوله حيز التنفيذ—إلا في مارس/آذار 2023.
وراء هذا التأخير، وقفت اعتبارات سياسية ودينية. فالرئيس العراقي آنذاك، فؤاد معصوم، كان قد دعا الكتل السياسية إلى إعادة النظر في القرار، مشيراً إلى أن العراق بلد متنوع دينياً يضم مكونات غير مسلمة مثل الإيزيديين والمسيحيين والصابئة المندائيين، ممن يعتبرون المشروبات الكحولية جزءاً من ثقافتهم أو مصادر دخلهم.
لكن تلك الدعوة لم تلقَ استجابة تُذكر، إلى أن مضى البرلمان في اعتماد القرار رسمياً عام 2023، منهياً سنوات من التردد القانوني والسياسي، ومطلقاً شرارة أزمة جديدة في علاقة الدولة بالحريات الفردية والاقتصاد الليلي وقبلها استقلالية القرار العراقي عن القوى الخارجية.
تشريع تحت الضغط: كيف مرّر البرلمان العراقي حظر الكحول خارج الأطر القانونية؟
عندما عُرض تعديل قانون واردات البلديات على مجلس النواب العراقي، تحوّل البند المتعلق بحظر بيع وتصنيع المشروبات الكحولية إلى بؤرة خلاف محتدمة. ففي حين رأى بعض النواب أن تضمين هذا الحظر يُقوّض أسس الدولة المدنية ويهدد التعددية الدينية التي يتميز بها العراق، تمسّك آخرون بتمريره مهما كانت التكلفة السياسية أو القانونية.
في إطار هذا التحقيق، سعى فريقنا إلى التواصل مع أعضاء في البرلمان كانوا حاضرين خلال جلسات التصويت، لفهم ملابسات ما جرى خلف الكواليس.
من بين من قابلناهم، كان النائب يونادم كنا، الممثل البارز عن المكون المسيحي، والذي شغل مناصب متعددة من بينها وزير الصناعة والطاقة في حكومة إقليم كردستان (1999–2001)، وعضوية مجلس الحكم بعد 2003، ثم رئاسة لجنة العمل والشؤون الاجتماعية بين 2014 و2018.
يؤكد كنا لآخبار الآن إن ما جرى لم يكن “تشريعاً جديداً” ينظم بيع أو شرب الكحول، بل مجرد تعديل مالي ضمن قانون الجبايات، بهدف تحديث الرسوم. ويشدد على أن العراق يمتلك أصلاً قانوناً ينظم تجارة المشروبات الكحولية منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
لكن ما أثار قلقه، كما قال، هو أن “فقرة التحريم” أُقحمت بشكل مفاجئ أثناء التصويت، دون أن تمر عبر القنوات التشريعية المعتادة أو مراجعة اللجنة المختصة، في مخالفة صريحة للنظام الداخلي للمجلس.
ويضيف كنا أن هذه الخطوة لم تكن مجرد تجاوز إداري، بل نتاج ضغوط سياسية ودينية قوية مارستها كتل حزبية نافذة. “تلقّى رئيس مجلس النواب تهديدات بسحب الثقة منه إن هو اعترض على المادة”، يقول كنا، مشيراً إلى أن هذه الممارسات كانت “مؤشراً خطيراً على تراجع مشروع الدولة المدنية”.
تواصل معدوا التحقيق كذلك مع أحد النواب المقربين من رئيس البرلمان السابق -الذي لم يتسنى لنا التحدث إليه- ، ليؤكد لنا أن حزب دولة القانون وكتل شيعة أخرى قد أوصلت رسالة عن طريق نواب سُنّة لرئيس المجلس ، مفادها (بقائك في كرسي رئاسة المجلس متوقف على تمرير هذا القانون من عدمه).
ورغم الاعتراضات العلنية من بعض النواب، بما فيهم النائب كنّا نفسه، إلا أن القانون مضى قدماً. “حتى الكتل التي ترفع شعارات المدنية التزمت الصمت”، يضيف بأسف، مؤكداً أن القرار خضع لإرادة كتل مذهبية تتجاوز القوانين وتُخضع البرلمان لمنطق القوة.
قانون يخنق الحريات وقد يُنعش المخدرات
لم يكتفِ النائب يونادم كنا بالاعتراض داخل البرلمان “في تلك الفترة” ، بل خرج في مؤتمر صحفي محذّراً من تداعيات تمرير فقرة حظر الكحول، واصفاً القرار بأنه “خنق مباشر للحريات المدنية” سيحمل أثماناً اجتماعية واقتصادية باهظة.
في حديثه ، أشار كنا إلى أن أكثر من 200 ألف شخص فقدوا أعمالهم نتيجة إغلاق الجمعيات والأندية الاجتماعية والثقافية التي كانت تعتمد على عوائد المشروبات الكحولية كجزء من تمويلها.

النائب يونادم كنّا.
لكن المخاطر، بحسب كنا، لا تتوقف عند حدود الاقتصاد أو الحريات. فقد أدى الفراغ الذي خلّفه الحظر، كما يقول، إلى تعزيز سوق المخدرات في العراق. “تحريم صناعة ونقل وبيع الكحول وفّر بيئة مثالية لانتشار المخدرات، وهذا ما نراه اليوم بوضوح في مواقف وسجون البلاد التي تغصّ بآلاف المتعاطين والمتاجرين”. وإن قد لا يكون هناك رابط نطقي مباشر بين الكحول والمخدرات إلا أن العراق بالفعل يحتاج اليوم إلى محاربة انتشار المخدرات إذ تقول المديرية العامة لشؤون المخدرات إن نسبة التعاطي في المناطق الفقيرة بلغت 17% وأعلى نسب لأعمار المتعاطين كانت من 15-30 سنة.
كنّا أشار أيضاً إلى مغالطة قانونية أخرى تتعلق بجهة الجباية. فإيرادات المشروبات الكحولية لا تُعدّ جبايات بلدية بل إيرادات اتحادية تُحصّل عند المنافذ الحدودية، وتذهب إلى الخزينة العامة لا إلى البلديات. “القانون لم يُفعّل لسنوات، لأنه لم يُصادق عليه ولم يُنشر في الجريدة الرسمية بفعل اعتراض رئاسة الجمهورية، لكن الفقرة أُقحمت لاحقاً في تعديلات الجبايات”، يوضح كنا في حديثه لأخبار الآن.
وعلى الرغم من تقديم طعن في هذه المادة أمام المحكمة الاتحادية، فإن الطعن رُفض، مما عزز من شرعية تنفيذ القرار، رغم الجدل الدستوري المحيط به.
أما عن استمرار تداول المشروبات الكحولية في باقي المحافظات العراقية، فيوضح كنا أن إقليم كردستان لم يلتزم بتطبيق الحظر، وهو ما فتح الباب أمام التهريب إلى باقي مناطق البلاد. “اليوم تصل المشروبات إلى بغداد والمحافظات بطرق غير شرعية، وأسعارها أصبحت أضعاف ما هي عليه في الإقليم”، يقول كنا.
ويضيف أن المستفيد الحقيقي من هذا الوضع هم “الكتل السياسية التي تتحكم بالمنافذ والسيطرات بين الإقليم والمركز، إلى جانب مافيات المخدرات التي تنمو في ظل الحظر، بل وتحظى بحماية غير معلنة من بعض الأطراف النافذة، على حساب تماسك المجتمع، الذي بات يشهد انتشار المؤثرات العقلية حتى في المدارس.
“قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”: غضب أيزيدي من حظر الكحول وأثره على الأقليات
بالنسبة للنائب الايزيدي شريف سليمان، فإن القرار بحظر استيراد وبيع المشروبات الكحولية لم يكن مجرد خطوة تشريعية مثيرة للجدل، بل كان طعنة مباشرة لآلاف العائلات التي تعتمد على هذا القطاع في معيشتها. “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”، قالها سليمان في تصريحات علنية، معبّراً عن استيائه العميق من القانون وطريقة تطبيقه، التي تجاهلت، برأيه، الواقع الاجتماعي والاقتصادي لمكونات دينية مهمّشة، على رأسها الإيزيديون والمسيحيون.

النائب الايزيدي شريف سليمان.
يشير سليمان إلى أن العواقب ظهرت سريعاً: فقد وجد كثيرون أنفسهم بلا مصدر دخل، واضطر العديد من الإيزيديين والمسيحيين إلى مغادرة بغداد والتوجه إلى إقليم كردستان، حيث لا يزال بيع الكحول مسموحاً، وتُحترم، نسبياً، الحريات المدنية بعيداً عن التجاذبات الدينية والسياسية.
في بيان صحفي صدر عنه بعد دخول القرار حيّز التنفيذ، دعا النائب الجهات الأمنية والسياسية إلى مراجعة القانون قبل المضي في تنفيذه، محذّراً من تداعياته على فرص العمل، خصوصاً بالنسبة للإيزيديين الذين ما زالوا يعيشون في ظروف نزوح قاسية منذ اجتياح تنظيم داعش لمنطقة سنجار.
“أكثر من 50 ألف شخص ما زالوا نازحين في داخل أو خارج مخيمات إقليم كردستان”، يقول سليمان، مشيراً إلى أن القرار يضاعف من معاناة مجتمع لا يزال يترنح تحت وطأة العنف والتهجير وفقدان فرص الحياة الكريمة.

نص البيان الذي نشره شريف سليمان في 2023.
ما بعد الحظر: حين يتحوّل غياب التنظيم إلى باب للابتزاز والفساد
في كواليس السياسة العراقية، لا يبدو تمرير قانون حظر المشروبات الكحولية بعيداً عن الحسابات الطائفية. نائب سابق، فضّل عدم الكشف عن اسمه، أكد في حديث لفريق التحقيق أن قوى “الإطار التنسيقي الشيعي” كانت الدافع الرئيسي وراء تمرير القانون داخل البرلمان. لكن ما حدث على أرض الواقع لم يكن “تطبيقاً للقانون” بقدر ما كان فتحاً لباب جديد من الفساد.
فمع غياب الإطار القانوني الواضح، استمرت بعض المحال والنوادي الليلية في العمل، لكن خارج مظلة الشرعية القانونية. وهو ما جعلها، بحسب النائب، عرضة للابتزاز والمساومة من قبل جهات متنفذة. “اليوم، هذه الأماكن لا تخضع لرقابة قانونية بل تخضع لنفوذ الفساد، بل وأصبحت جزءاً من دائرة أوسع تشمل الترويج للمخدرات أيضاً”، يقول النائب، مشدداً على أن غياب التنظيم الفعلي أضر بالمجتمع أكثر من وجود قانون منظم وواضح.
ويضيف أن بعض النواب منذ الدورة البرلمانية الثانية سعوا بالفعل إلى تشريع قانون ينظم عملية بيع واستيراد المشروبات الكحولية، على غرار ماهو معمول به في عدد من الدول العربية. الفكرة لم تكن الترويج للكحول، بل حماية الطابع المدني للدولة. “بغداد ليست قندهار”، يقول النائب، موضحاً أن غياب التنظيم هو ما سمح للفوضى بالتمدّد، وللمجتمع بأن يتحوّل إلى ساحة مفتوحة أمام الاستغلال والتهريب والتطرف
تهنئة للمرجعية الشيعية وخرق للدستور.. كيف مرّر البرلمان قانون الحظر تحت غطاء ديني؟
في أكتوبر/تشرين الأول 2016، وبعد تصويت البرلمان على قانون جبايات البلديات الذي تضمّن فقرة حظر بيع واستيراد المشروبات الكحولية، نشر القاضي الدكتور محمود الحسن، رئيس اللجنة القانونية في البرلمان آنذاك (2014–2018)، تهنئة علنية عبر صفحته على فيسبوك، موجهاً إياها إلى المرجعية الشيعية في النجف الأشرف، وإلى الشعب العراقي، بمناسبة تمرير الفقرة المثيرة للجدل.
كان الحسن، المرشح عن ائتلاف “دولة القانون” بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، شخصية مثيرة للجدل منذ بداية ترشحه في انتخابات 2014. فقد أثارت حملته الانتخابية سخطاً واسعاً بين المواطنين والأحزاب، بعد انتشار مقطع مصور له يهدد فيه مواطنين فقراء بمحاسبتهم إذا لم يصوّتوا للمالكي وائتلافه في واقعة وصفها بعض الناشطين بأنها “الفضيحة الكبرى”.
لكن خلف تصويت عام 2016، يكمن مأزق دستوري صريح، بحسب خبراء قانونيين. النواب الذين دعموا تمرير الفقرة استندوا إلى المادة (1-أ) من الدستور العراقي، التي تنص على أنه “لا يجوز سنّ قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام”. غير أنهم تجاهلوا باقي الفقرة الدستورية، التي تحظر سنّ أي قانون يتعارض مع “مبادئ الديمقراطية” أو “الحقوق والحريات الأساسية” (المادة 1 – ب وج)، ما يجعل القانون، بحسب خبير قانوني، متعارضاً مع الدستور، وبالتالي فاقداً للشرعية القانونية.
ويؤكد النائب يونادم كنا، الذي كان عضواً في البرلمان حينها، أن تمرير الفقرة لم يكن ناتجاً عن توافق تشريعي، بل عن ضغوط سياسية واضحة. ويضيف أنه سمع مباشرة من مصادر داخل المجلس أن رئيس البرلمان وقتها، سليم الجبوري، تلقى تهديدات صريحة بسحب الثقة منه إذا رفض السماح بتمرير القانون.
تشير الوقائع إلى أن أحزاباً شيعية موالية لإيران، كانت تهيمن على المشهد السياسي والأمني في البلاد خلال تلك الفترة، كانت صاحبة اليد الطولى في فرض هذا التوجه. وفي مقدمتها ائتلاف “دولة القانون” بزعامة المالكي، الذي لعب دوراً محورياً في تحويل البند المتعلق بالكحول من قضية تنظيم إلى قرار حظر قائم على أسس أيديولوجية.
لحظات حاسمة… كيف مرّرت فقرة حظر الكحول داخل جلسة تشريعية عادية؟
في 22 ديسمبر/كانون الأول 2016، عقد مجلس النواب العراقي جلسة برلمانية بدت في ظاهرها روتينية: تصويت على عدد من الفقرات، ومناقشة أخرى ضمن جدول أعمال يخص مشاريع قوانين خدمية واقتصادية. لكن ما لم يكن مدرجاً بشكل واضح في جدول النقاش، كان الفقرة الثالثة في الجلسة، “التصويت على مشروع قانون واردات البلديات”، الذي تولت مناقشته ثلاث لجان: الخدمات والإعمار، المالية، والقانونية.
حتى تلك اللحظة، لم يكن أغلب النواب يتوقعون أن القانون سيتضمن مادة مثيرة للجدل. لكن المفاجأة جاءت عند الوصول إلى البند المتعلق بـ”جباية البلديات”، إذ اكتشف عدد من النواب أن النص يتضمن فقرة تنصّ على حظر استيراد وبيع المشروبات الكحولية في البلاد.
عند طرح الفقرة، طالب النائب جوزيف صليوا بتدقيق عدد الحضور، في محاولة لإيقاف التصويت أو تأجيله. لكن لحظات قليلة كانت كافية لتمرير المادة، في ظل حالة من الارتباك داخل القاعة، وفقاً لتسجيلات جلسة البرلمان المتاحة.
ومن خلال مراجعة التصويت، يتضح أن غالبية من أيدوا تمرير المادة ينتمون إلى الكتل الشيعية، مع تأييد محدود من نواب آخرين من قوميات ومكونات مختلفة.
بهذا، لم يكن تمرير الحظر نتيجة نقاش علني وشفاف، بل خطوة جاءت وسط جلسة مزدحمة، استُخدمت فيها آليات التصويت لتمرير قرار مفصلي بعيداً عن الرقابة، ودون عرض واضح على الجمهور أو حتى إشعار مسبق للنواب أنفسهم.
جلسة التصويت على قانون منع المشروبات الكحولية، الدقيقة 41:33.
ازدواجية المعايير.. حظر الكحول يُمرّر بينما الضرائب تطال المساج والرقص والمراهنات
في مقابلة تلفزيونية، وجّه النائب السابق جوزيف صليوا انتقادات لاذعة للقانون الذي حظر استيراد وبيع المشروبات الكحولية، مؤكداً أن تمريره لم يكن بريئاً أو نتاج توافق مدني، بل نتيجة ضغوط مارستها “جهات شيعية متشددة بالتنسيق مع أطراف سنية متطرفة”.
صليوا، وهو أحد الأصوات النادرة التي اعترضت على القرار بشكل صريح، تساءل في حديثه: “هل الكحول حرام في الإسلام بينما الفساد حلال؟”، في إشارة إلى ما وصفه بـ”ازدواجية المعايير” في تعاطي البرلمان مع قضايا الأخلاق العامة.
لكن اللافت في قانون جباية البلديات نفسه، الذي حمل فقرة حظر الكحول، هو أنه تضمن أيضاً بنوداً أخرى تتقاطع بشكل مباشر مع ما يعتبره التيار الإسلامي مخالفاً للشريعة.
فالقانون في فقرته الرابعة فرض رسوماً ضريبية على أنشطة مثل المساج، كما نصّ القسم العاشر منه على ضريبة بنسبة 10% على دور المساج، وأخرى على صالات السينما وقاعات الرقص الشرقي والغربي.
كما شمل القانون أيضاً فرض ضريبة مماثلة بنسبة 10% على مبيعات اليانصيب والمراهنات—وهي أنشطة لطالما وُصفت بأنها تتعارض مع الأحكام الشرعية في الخطاب الديني الرسمي.
هذا التناقض، بحسب مراقبين، يعكس طبيعة السياسة العراقية المزدوجة: حيث تُستخدم مفردات “الدين” و”القيم” لتمرير قوانين انتقائية، بينما تُغضّ النظر عن ممارسات تُخالف ذات المبادئ حين تتعلّق بمصالح مالية أو حسابات سياسية دقيقة.
من يُحرم عليه ومن يُباح له؟
في أحد أحياء بغداد، يجلس مهدي، شاب في مطلع الثلاثينيات من عمره، وسط معدات معطّلة وذكريات سهرات كانت تجمع مثقفين وأطباء ومهندسين، قبل أن يغلق النادي الاجتماعي الذي كان يديره بعد تطبيق قانون جباية البلديات لعام 2016.
“كافي ظلم… أوقفوا الظلم”، هكذا بدأ مهدي حديثه، بصوت يمزج بين الغضب وخيبة الأمل. عمل لسنوات كمسؤول إداري في نادٍ اجتماعي وثقافي، يفتخر بأن زبائنه لم يكونوا من هواة الصخب أو الرقص، بل من أبناء الطبقة الوسطى: أساتذة جامعات، ضباط، أطباء، خريجون جامعيون مثلهم مثله.
“أنا خريج إدارة واقتصاد، ولم أجد وظيفة حتى اليوم”، يقول مهدي، مشيراً إلى أن العمل في هذه النوادي كان مخرجاً اقتصادياً لآلاف الخريجين العاطلين. “اليوم أنا عاطل، لا لأنني خالفت القانون، بل لأن الدولة طبّقت القانون علينا فقط، وتركت آخرين يمارسون النشاط نفسه دون مساءلة”.
بالنسبة له، لم يكن القرار مفهوماً ولا عادلاً. “نحن كنا نُدير نوادي اجتماعية، بلا رقص، بلا رشّ أموال… فقط لقاءات وأحاديث ومشروبات. وفجأة، تم إغلاقها. بينما الملاهي الليلية ما زالت مفتوحة، ويُسمح لها بالعمل، وكأن القانون لا يعنيها”.
في قصة مهدي تتجلّى المفارقة الأكبر: ليس في تطبيق القانون، بل في انتقائية. قانونٌ يُطبَّق على البعض بصرامة، بينما يُستثنى منه آخرون، إما لأنهم يملكون النفوذ، أو لأنهم يعملون في الظل، خارج أي رقاب.
نفوذ يحمي البعض… والحظر يُغلق الأبواب على آخرين
في منطقة الكرادة ببغداد، يتحدث أحد أصحاب النوادي الاجتماعية بصوت خافت، طالباً عدم الكشف عن اسمه. يقول إن القرار الحكومي بإغلاق النوادي الليلية ومنافذ بيع الكحول لم يُطبّق بعدالة، بل بمكيالين. “لأننا لا نملك علاقات مع سياسيين أو ميليشيات، أُغلقت نوادينا فوراً. أما من لديهم غطاء سياسي أو مليشياوي، فما زالوا يعملون بحرية تامة، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منهم”.
يشير هذا الرجل إلى أن شوارع كانت معروفة بنواديها الاجتماعية والثقافية باتت اليوم مهجورة، أشبه بالثكنات الأمنية، بعد أن طرد منها روّادها، وصمتت موسيقاها. يؤكد أن العديد من هذه النوادي دفعت بدلات ايجار سنوية، وسددت ضرائب للدولة، واستعانت بشركات أمنية مرخّصة من وزارة الداخلية لحمايتها. بعضها كان يعمل منذ أكثر من عقدين، في ظل حماية رسمية، قبل أن يُغلق فجأة، ودون تعويض.
هذه التجربة لا تمثل حالة فردية فقط، بل انعكاساً لمشكلة أعمق، بحسب خبير قانوني بارز في العراق، تحدث لفريق التحقيق. يؤكد أن القانون الذي فرض الحظر يتعارض بشكل مباشر مع الدستور العراقي، الذي يكفل الحريات المدنية والدينية. “ما جرى ليس فقط تضييقاً على الحريات، بل زعزعة لهوية العراق المدنية”، يقول الخبير، مضيفاً أن “الفراغ الذي خلّفه غياب المشروبات الكحولية لم يبقَ بلا بديل، بل استُبدل بانتشار مهول للمخدرات”.
ويتابع: “العراق تحوّل من بلد عبور للمخدرات إلى بلد مستهلك لها، مع آلاف الأطنان التي تُصادَر أو تتسرّب إلى الأسواق، وخصوصاً بين فئة الشباب”.
ويرى أن تراجع الدولة عن حماية الحريات فتح الباب أمام تصاعد الجريمة، بما فيها الانتهاكات الأخلاقية والاجتماعية، ويختم بتحذير لافت: “ما يجري ليس تحريماً دينياً فقط، بل تفكيك للمجتمع تحت عباءة الأخلاق. والنتيجة: مجتمع أكثر فقراً، أكثر تطرفاً، وأكثر انكساراً”.
من النظام إلى التهريب: شليمون ينقل الكحول تحت حماية الفساد
في كراج صغير في أحد أطراف بغداد، يروي شليمون، رجل مسيحي يعمل في نقل المشروبات الكحولية منذ أكثر من عشر سنوات، كيف انقلبت حياته رأساً على عقب بعد دخول قانون الحظر حيز التنفيذ.
“كنا نعمل تحت القانون، واليوم نعمل في الظل”، يقولها بنبرة لا تخلو من التحدي، مشيراً إلى أن عمله أصبح الآن جزءاً من شبكة تهريب غير رسمية تنطلق من إقليم كردستان، وتحديداً من محافظة السليمانية.
يصف شليمون رحلته المتكررة: يصل إلى السليمانية، ينتظر حتى حلول الليل، ثم يبدأ بتحميل شحنته، زجاجات كحولية تُخفى بعناية خلف سلع تجارية أخرى لتجنّب نقاط التفتيش. لكنه لا يترك الأمور للمصادفة. “أعمل بتنسيق مع بعض عناصر الشرطة، وأفراد من السيطرات الأمنية التابعة لميليشيات منتشرة في محافظة ديالى”، يقول، مؤكداً أن عبور الشحنة لا يتم مجاناً.
تكلفة “المرور الآمن” تتفاوت. “أدفع بين ألف وعشرة آلاف دولار لكل شحنة، بحسب الكمية ونوع المشروبات. الزجاجات الفاخرة لها سعر أعلى، والرديئة أقل”، يوضح. ومع كل عبور، يتكشّف وجه آخر للقانون، شبكة من الابتزاز المالي والابتسامات الرسمية التي تغطي وجوهاً ميليشياوية وأمنية تستفيد من السوق السوداء.
لكن العمل في هذا المجال محفوف بالمخاطر. تعرّض شليمون أكثر من مرة لعمليات مضايقة من جهات مسلحة تطالبه برفع قيمة الإتاوات، ما يدفعه لرفع أسعار المشروبات على الزبائن لتعويض ما دفعه. ويقول: “أعرف أكثر من شخص تم اعتقاله من قبل جماعات مسلحة، دون أي مذكرة قضائية. يُحتجز، يُهدد، ثم يُخيّر: ادفع أو ابقَ في الحجز. وفي النهاية، يدفع ويُطلق سراحه”.
رغم ذلك، لا يبدو الخوف جزءاً من شخصية شليمون. يتحدث ببحة صوت قوية، مفعمة بالغضب الواضح، ويضيف: “لا أحد يستطيع منع الكحول عن العراقيين. حتى لو منعت الدولة، ستدخل عبر التهريب. والربح سيذهب لمن شرّع القانون، وللميليشيات التي تساعد المهربين… هكذا يُدار البلد”.
علي، تاجر كحول في بغداد، يشرح هو الآخر أيضا كيف تدخل البضائع إلى العاصمة رغم الحظر. يقول إن كميات كبيرة من المشروبات تصل بطرق “رسمية”، سواء عبر ميناء الفاو في الجنوب، أو من خلال المعابر التابعة لإقليم كردستان.
“ندخل البضاعة رسمياً، ثم نوزّعها إلى المحال المفتوحة في منطقة الرشيد، ومنها إلى مخازن أو متاجر أخرى”، يقول علي، مشيراً إلى أن المنع الظاهري لم يوقف التوزيع بل أعاد تشكيله بطريقة أكثر تعقيداً.
لكن ما يجعل هذا السوق قائماً هو الحماية التي توفّرها جماعات مسلّحة وشخصيات متنفذة. يؤكد علي أن استمرار عمله يعتمد على دفع مبالغ منتظمة لتلك الجهات التي توفّر له الغطاء والحماية. “هذه الحماية ليست مجانية”، يقول، مضيفاً أن أسعار المشروبات في السوق تضاعفت لأن التجّار باتوا مضطرين لتحمّل تكاليف فساد متشعّب يبدأ من بوابات الدخول ولا ينتهي عند آخر نقطة بيع. ببساطة، لم يُوقف القانون بيع الكحول، بل حوّله إلى سلعة باهظة الثمن، محكومة بقواعد المافيا بدل قوانين الدولة. وفق علي.
الحظر ليس نهاية الكحول… بل بداية الانهيار المدني تحت املاءات أجنبية
بينما تغلق بغداد أبوابها أمام الحريات الفردية، تفتح مدن إقليم كردستان ذراعيها للشباب العراقيين الباحثين عن متنفس اجتماعي وشخصي. الإقليم، الذي لم يلتزم بتطبيق قانون الحظر، تحوّل إلى وجهة للهاربين من القيود، حيث تُمارس الحقوق الدستورية—بما فيها حرية تناول المشروبات الكحولية ضمن نظام أمني منظّم يوفّر الحماية بدل الترهيب.
لكن المفارقة الأكبر أن ما يُحظر في بغداد يُباع علناً في السليمانية. ومن بقي في العاصمة، عليه أن يختار بين الدفع المُضاعف في السوق السوداء أو الانزلاق نحو المخدرات. النتيجة: شبكة فساد تُغذّيها ميليشيات تحمي المهربين، وأسواق سوداء تُثري أطرافاً نافذة، بينما يُقمع أصحاب المحال القديمة ويُدفع المواطن البسيط إلى العتمة.
أسوأ من ذلك، لم يكن قرار الحظر انعكاساً لنقاش مجتمعي أو توافق وطني، بل نتيجة ضغوط مورست داخل البرلمان من قبل كتل دينية موالية لإيران، فرضت رؤيتها الأيديولوجية على مجتمع متنوّع ومتعدّد. لم يأتِ القرار من داخل الإرادة العراقية، بل تم تصديره من خارجها، في انتهاك صريح لسيادة القرار الوطني، وللدستور الذي يكفل حرية المعتقد والتنوع الاجتماعي.
وإذا كان الحظر محاولة لحماية “الثوابت الإسلامية”، فلماذا تستمر القوانين التي تفرض ضرائب على أنشطة كاليناصيب والمراهنات التي تحرّمها الشريعة نفسها؟ ولماذا تغض الدولة الطرف عن أسواق مخدرات تتوسّع بين طلاب الجامعات وتحت أنف الأجهزة الأمنية؟
في النهاية، يبدو قرارٌ تجريم بيع وصنع المشروبات الكحولية في العراق لم يُنتج أخلاقاً، بل فجّر تناقضات الدولة، وعزّز تحكّم جماعات خارجة عن القرار الوطني بمصير شعب كامل.