في مدينة تعز اليمنية، حيث تدور معارك طاحنة منذ سنوات، نتيجة تمرد ميليشيا الحوثي على الحكومة الشرعية، تتحول الحياة اليومية إلى صراع مستمر من أجل البقاء. وعلى تخوم مناطق سيطرة الحوثيين تظهر تهديدات أكبر للسكان المدنيين حيث باتوا منذ عشر سنوات ضحية سهلة في يد القناصة الحوثيين الذين لا يتوانون عن استهداف أي جسم يتحرك ولو كان طفلا امرأة أو حتى حيوانا. تحركهم فقط النزعة لترهيب الناس واحكام قبضتهم على تلك المناطق بالقتل والتهجير.
تعز، ثالث أكبر مدن اليمن، تحولت إلى مسرح للمعارك. في الأحياء القريبة من خطوط التماس، لا يكاد يخلو يوم من أصوات الرصاص والانفجارات، بينما يعاني المدنيون من نقص حاد في المياه والطعام والخدمات الأساسية. هذه المدينة التي كانت تعرف في وقت ما بالحيوية أصبحت اليوم مثالًا حيًا عن معاناة المدن تحت الحصار، حيث يعيش السكان في خوف دائم من القنص والقصف.
آثار الحصار والقنص
الحصار المفروض على تعز يعمق المعاناة اليومية للمدنيين. اضطر السكان إلى بناء سواتر من بقايا المنازل المدمرة لحماية أنفسهم من القناصة. لكن حتى هذه الجهود لم تخلُ من المخاطر، حيث قُتل بعضهم أثناء محاولات بناء السواتر.
المياه التي تعد شريان الحياة، أصبحت شحيحة، وجمعها من مياه الأمطار أو البحث عنها يعرض المدنيين لخطر القنص أو الألغام المزروعة في الطرق. الأطفال الذين يخرجون لجلب الماء غالبًا ما يعودون مستهدفين أو لا يعودون”
صورة لبعض السواتر الحديدة التي يستخدمها السكان في خطوط التماس مع مناطق سيطرة الحوثيين.
فقدان الإبن الوحيد
تروي الحاجة آمنة سلطان، أم فقدت ابنها الوحيد برصاص قناص، قائلة: “ابني كان دائمًا يخاف من القناص. في اليوم الذي خرج فيه للعمل، لم يعد. أصيب برصاص قناص ولم نستطع إنقاذه.” الحاجة آمنة، التي اضطرت للنزوح مع أحفادها، تعيش الآن في خوف دائم وذكريات مؤلمة. تقول: “القناص فوقنا دائمًا، والحياة أصبحت بلا أمان.”
آمنة لا تبكي فقد ابنها فقط فالوجع هنا مضاعف، وقد تركت خلفها البيت وذكرياته التي عاشت فيه لعقود حاملة معها اليوم فقط ذكريات الموت والفواجع.
آمنة سلطان من أمام المنزل الذي هربت إليه بعد قنص الحوثيين ابنها الوحيد.
وإلى آن استطاعت الحاجة آمنة أن تغادر البيت القديم و تنزح لمكان أكثر آمنا إلا أن غيرها لم يستطع ذلك .. ففي حي بريد الروضة، حيث الرصاص يسبق الخطوات، لا يزال يواجه الباقون هناك الموت بجلد والفقد بصبر. الحاج سعيد هزاع، رجل في الثمانين من عمره، يعيش على خط النار.. لأن لا مكان له يذهب إليه.
يصف الحاج سعيد معاناته بعد مقتل ابنه يزيد قائلاً: “خرج لجلب دبة ماء، فقنصه الحوثيون أمام عيني. تركني وحيدًا أنا وزوجتي، نعاني من فقده يوميًا.” الحاج سعيد، الذي فقد حفيده و معيل أسرته الوحيد، يواجه تحديات يومية في تأمين احتياجاته الأساسية.
الحاج سعيد هزاع رفقة زوجته سعود ، ديسمبر 2024.
استهداف المسعفين
ليس السكان وحدهم من تتم تصفيتهم بدم بارد فحتى من يمد يد العون لإغاثة الآخرين في هذه المناطق، يجد نفسه هدفًا للنيران. داليا محمد، ليست فقط مسعفة، بل رمز للشجاعة. منذ بداية الحرب، وضعت حياتها على المحك وواصلت في مساعدة الضحايا والمتضررين رغم إصابتها في عينها حينما كانت بصدد إنقاذ طفل استهدفه قناص.
تقول داليا: “عمليات القنص بدأت بشكل مبكر جدًا، وكأنها كانت خطة مرسومة وهدفًا واضحًا قبل أن تنتشر أو تتموضع العمليات العسكرية في الجبهات. أذكر أول حالة قنص رأيتها، كانت لشخص يبيع عصير التوت على عربة أمام قاعة القصر. كان ذلك بتاريخ الواحد والعشرين من مارس 2015. بعد ذلك، وقعت ثاني حالة قنص لطفل صغير عائد من المدرسة في نفس العام. أثناء محاولتي إسعاف هذا الطفل، تعرضت أنا أيضًا لإصابة برصاص قناص بينما كنت أقوم بدور المسعفة.”
وتواصل داليا: في هذه الطرقات، وفي هذا المكان تحديدًا، قُتل ثلاثة أشخاص بسبب استهداف بالمدفع. وأذكر أيضًا أن المزارعين هنا، أثناء عملهم في الأراضي الزراعية، كانوا يتعرضون للاستهداف إذ لا تمر ثلاثة أو أربعة أيام إلا ويحدث قصف يستهدف المدنيين.
تؤكد داليا: حاول الناس هنا النزوح في بداية الحرب، لكن طبيعة المنطقة الزراعية كانت تعيقهم. إذ اضطر أحدهم للنزوح، فإنه يحتاج إلى أخذ ماشيته وكل ممتلكاته معه، وهنا لا يوجد مجتمع مضيف يمكنه استقبالهم. وهو وضع جعل الكثيرين يضطرون إلى البقاء والتعايش مع الخوف والموت في كل خطوة.”
قنص الأطفال
رويدا، طفلة صغيرة لم تتجاوز العشر سنوات، كانت تسعى لنقل الماء إلى منزل عائلتها برفقة شقيقها الأصغر وقبل أن تبلغ المنزل أصابتها رصاصة. يروي والد رويدا صالح بن صالح لأخبار الآن: “كانت برفقة أخيها الصغير عندما استهدفها القناص برصاصة في رأسها. وقد نجت من الموت بمعجزة، لكن آثار الإصابة ستبقى معها إلى الأبد.”
أما رويدا فإنها لا تزال تعاني نفسيا كلما تذكرت الحادثة حتى أنها لم تستطع الاسترسال في الحديث إلينا. يروي الوالد مجددا تفاصيل الحادثة قائلاً: “ابنتي كانت تنزف في الشارع بعدما استهدفها القناص. أخوها الأصغر، عمري، كان يصرخ طالبًا النجدة، وسحبها بيديه الصغيرتين بعيدًا عن مرمى النيران. الناس في الحي هربوا خوفًا من القناص، لكنهم تمكنوا من حملها إلى مكان آمن باستخدام دراجة نارية.”
صورة لرويدا أثناء تصوير الفيلم، ديسمبر 2024.
تم نقل رويدا إلى مركز الروضة أولًا، ومن ثم إلى مستشفى الصفوة. يقول والدها: “جلسنا معها في المستشفى وهي في غيبوبة. لم أكن أعرف إذا كانت ستنجو، لكنني كنت أدعو الله أن يمنحها فرصة أخرى للحياة.”
التعايش مع نيران القناصة
“أنا منير الكحلي، أعيش في حي بريد الروضة، حيث القناصة لا يتركون فرصة للحياة.” بهذه الكلمات يبدأ منير سرد قصته، وهي قصة تشبه قصة من بقي من السكان في الحي”. يوضح منير: “هذه المنطقة تقع أمام معسكر الأمن المركزي الذي تسيطر عليه ميليشيا الحوثي. نحن في منطقة خط تماس ملاصقة لمسرح العمليات العسكرية منذ أكثر من عشر سنوات. نعاني يوميًا من القنص المنهجي وقذائف الميليشيا وشظايا الموت التي أرعبت السكان.”
يتابع منير حديثه: “حاولنا حماية أنفسنا بسواتر بسيطة قمنا بتفكيكها من البيوت المهجورة، لكنها لم تكن كافية. فقدنا العديد من الجيران أثناء محاولاتنا لإنشاء السواتر. النساء في الحي ساهمن ببيع مجوهراتهن لدعم هذه الجهود، لكن الديون تراكمت علينا وما زلنا نعاني من تبعاتها.”
الحياة في المنطقة ليست أقل من كابوس. يقول منير: “حتى البحث عن الماء أصبح مخاطرة. المياه أصبحت شحيحة، ونجمعها من مياه الأمطار. الطرق مليئة بالألغام، وكل خطوة فيها مخاطرة بسبب القناصة.” يضيف بحزن: “فقدت والدي هنا، قنصه الحوثيون أمام أعيننا. لم أتمكن حتى من نقله إلى المستشفى، و اضطررنا لانتظار ساعات الليل لدفنه.”
ويواصل “والدتي تعيش في منزل قريب، ولا يمكنني الوصول إليها إلا فجرًا أو بعد المغرب، في الظلام الدامس، لتجنب رصاص القناصة. القناصات الحرارية التابعة للحوثيين تجعل الوضع أكثر سوءًا. التواصل معها يتم عبر الهاتف أو بالصراخ من بعيد.”
منير رفقة أطفاله بحي بريد الروضة الذي أصبح شبه خال بعد نزوح سكانه بسبب انتشار القنص العشوائي للمدنيين.
يحاول منير النجاة بأطفاله، لكن أبسط الأنشطة اليومية في أي مكان في العالم تصبح هنا مخاطرة قد تكلف حياتك. الظلام ليس مجرد غطاء لليل، بل هو وسيلة لتجنب رصاص القناصة والموت.
في ختام حديثه لأخبار الآن يقول منير:”نريد فقط أن نعيش مثل باقي البشر. نريد الأمان. نحن متعبون من هذا الوضع الذي لا نهاية له. أنا لا أريد شيئًا سوى أن أرى أطفالي يكبرون في بيئة آمنة بعيدًا عن الخوف.
انتشار خطوط النار يزهق حياة الآلاف
في محافظة تعز، تنتشر خطوط التماس في معظم المديريات، يوضح نور الدين المنصوري راصد باللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات حقوق الإنسان: “يمكننا القول إن مديريات الصالة، صبر الموادم، القاهرة، التعزية، وحتى جبل حبشي ومديرية الحكومة، جميعها أصبحت مسرحًا لعمليات القنص المستمرة. يعيش المواطنون في هذه المناطق تحت وطأة خوف دائم، حيث تعاني الأغلبية من حالات نفسية غير طبيعية نتيجة القلق والحرمان المستمرين.”
يتابع نور الدين حديثه بحزن: “الأطفال هنا محرومون من أبسط حقوق الطفولة. لا يستطيعون اللعب أو الخروج من منازلهم، لأن مجرد وجودهم في الخارج يعرضهم لخطر القنص أو المقذوفات التي تطلقها جماعة الحوثي باستمرار. لدينا قصص مؤلمة جدًا عن أطفال استُهدفوا مباشرة أثناء لعبهم بالقرب من منازلهم. هذه الفئات التي تعيش في خطوط التماس تعيش بلا أدنى مستوى من الأمان أو الكرامة.”
نور الدين المنصوري في مكتبه بمدينة تعز، ديسمير 2024.
ويوضح نور الدين: “حتى الكبار لا يستطيعون الذهاب إلى المسجد أو السوق إلا في أوقات محددة جدًا، خوفًا من استهدافهم. هذا الوضع يترك آثارًا نفسية طويلة الأمد على السكان، وخاصة الأطفال والنساء، الذين يعيشون في حالة دائمة من الرعب والقلق.”
“الكثير من الأسر اضطرت إلى الهجرة هربًا من الأوضاع المعيشية والأمنية المتدهورة. لكن الأسر الأكثر فقرًا لم تستطع الفرار، لأنها عاجزة عن تحمل تكاليف النزوح أو العثور على مكان آخر للسكن. لذلك، بقيت تواجه الموت يومًا بعد يوم.” إذ يؤكد نور الدين بالأرقام: “حتى الآن، بلغ عدد الضحايا 10,400 شخص، بينهم 3,600 قتيل و 6,800 جريح.
يشرح نور الدين بغضب: “استهداف المدنيين محرم في كل المواثيق الدولية والقانون الدولي، مثل اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية. لكن جماعة الحوثي لم تُعر أي اهتمام لهذه القوانين، واستمرت في عملياتها الوحشية ضد المدنيين. هذا التعنت يضيف طبقة جديدة من الألم للسكان الذين يعيشون في مناطق الصراع.”
سجن كبير
من جانبه يقول ماهر العبسي، ناشط حقوقي في مكتب شؤون الحصار،: “الحصار والقنص زاد من معاناة سكان تعز. حتى التنقل بين المنازل بات خطرًا.” ويضيف: “زراعة الألغام واستهداف المدنيين بالقذائف حولت المدينة إلى سجن كبير.” ماهر وثّق العديد من الجرائم، لكن من يسمع؟ الموت أسرع من أي عدالة.
يوضح العبسي حجم الكارثة الإنسانية التي تعيشها المدينة قائلاً: “بلغ عدد الضحايا المدنيين في تعز منذ بداية الحرب حتى ديسمبر 2023 أكثر من 10,000 بين قتيل وجريح.” هذه الأرقام تسلط الضوء على المعاناة المستمرة التي يعيشها سكان المدينة المحاصرة.
ماهر العبسي أثناء إجراء المقابلة، ديسمبر 2024.
ويؤكد ماهر على أهمية رفع الحصار قائلاً: “من الضروري الضغط على جماعة الحوثي لفتح الطرقات وإزالة الألغام المحيطة بالمدينة لرفع الحصار بشكل كامل.” الألغام المزروعة في الطرق والمناطق المحيطة تعيق حركة السكان وتزيد من معاناتهم اليومية.
يختتم ماهر حديثه برسالة واضحة إلى المنظمات المحلية والدولية والمانحين: “رسالتنا هي زيادة الدعم، خصوصًا في تعز التي تعاني من حرب وحصار مستمرين.” يؤكد ماهر أن تعز بحاجة إلى جهود حقيقية من المجتمع الدولي للتخفيف من وطأة الحرب وتحسين أوضاع السكان المحاصرين.
0 تعليق