في عام 1981، كانت سوريا تمر بواحدة من أحلك فتراتها، حيث احتدم الصراع بين النظام السوري بقيادة الرئيس حافظ الأسد وجماعة الإخوان المسلمين. تميزت هذه المرحلة بتصعيد كبير في المواجهات، التي طالت مدناً سورية عدة، وبلغت ذروتها في مجزرة حماة عام 1982. خلال هذه الفترة، نفّذ النظام حملات قمع واسعة النطاق ضد المعارضة، مستخدماً القوة المفرطة لفرض السيطرة، حيث انتشرت الاعتقالات التعسفية، الإعدامات الميدانية، والتعذيب في السجون.
في هذا السياق المضطرب، تم اعتقال الملازم الطيار رغيد الططري عام 1981 بتهمة رفض تنفيذ الأوامر العسكرية لقصف المدن السورية، وهي خطوة نابعة من قناعة مبدئية وإنسانية برفض استهداف المدنيين. اعتقاله جاء في وقت كانت فيه الدولة تبني أجهزتها الأمنية حول سحق أي بوادر تمرد أو رفض للأوامر، مما جعله أحد أبرز الأصوات المعارضة في الجيش السوري خلال تلك الحقبة.
رغيد الططري أمضى 43 عاماً في السجون السورية متنقلاً بين أسوأ المعتقلات سمعة، مثل سجن تدمر وصيدنايا، حيث عانى من التعذيب الوحشي وظروف الاعتقال غير الإنسانية.
هذا الحوار يسلط الضوء على تجربة الططري في تلك السجون المظلمة، ويستعرض مواقفه، نضاله، واللحظات الحاسمة التي مر بها، إلى جانب شهادته على أحداث تمرد السجناء في سجن صدنايا وغيرها من المحطات المفصلية في التاريخ السوري. من خلال حديثه، نستكشف كيف صاغت تلك السنوات الطويلة من الاعتقال حياته ومواقفه من الواقع السياسي السوري اليوم.
السؤال: ما الذي دفعك لاتخاذ قرار رفض القصف في مدينة حماة؟ وهل كان هذا القرار نابعاً من قناعات شخصية أم بدوافع إنسانية ومبدئية؟
رغيد الططري: “في البداية، أود أن أوضح أن هذا الأمر فُسّر بشكل خاطئ عبر وسائل التواصل الاجتماعي. نحن، أنا وزميلي محمد سجري، كنا متهمين بتحريض الطيارين على رفض مهام قصف المدن السورية الآمنة، سواء كانت حماة أو غيرها. كنا نقول لهم إنه إذا تلقوا مثل هذه المهام، عليهم رفض تنفيذها والتوجه إما إلى الأردن أو العراق.
لكن الحقيقة هي أن الموضوع لم يكن كما صُوّر. لم يحدث أن طيارًا رفض تنفيذ مهمة قصف وهو في الجو. أول من لجأوا إلى الأردن كانوا الطيارين مأمون نقار وعبد العزيز عبيد، و قد رفضا المسير وفق خطة حافظ الأسد، لكنهما لم يكونا مكلفين بمهمة قصف. كانت مهمتهما مهمة كشف جوي لتحديد الرؤية الجوية في المناطق المختلفة.
أنا أيضاً غادرت إلى الأردن، لكنني لم أستخدم الطائرة، بل عبرت برًا. كان هدفنا واضحًا: التحريض على رفض تنفيذ أوامر القصف الجماعي. النظام اعتبر ذلك من أخطر الأفعال لأنها تمس بروح المجموعة.”
السؤال: من كان وراء الكشف عن موقفك ورفضك تنفيذ الأوامر؟ وهل توقعت أن يتم الإبلاغ عنك؟ وكيف أثر ذلك على حياتك؟
رغيد الططري: “بالنسبة للواشي، حتى لو كنت أملك شكوكًا حول من فعل ذلك، لا أستطيع اتهامه دون دليل أو وثائق. النظام كان يعتمد على الشك والظن لإصدار الأحكام، ونحن كنا نحاول الابتعاد عن هذا النهج.
النظام كان يُصدر الأحكام بناءً على ما يخدم استمرارية الاعتقال. إذا أرادوا اعتقالًا طويل الأمد، كانوا يلفقون تهمة قوية دون الحاجة إلى دليل. المحكمة الميدانية التي تعرضنا لها لم تكن تتطلب أدلة أو وثائق، بل كانت تُصدر الأحكام بناءً على الظنون فقط.
أنا أعتبر من المعيب أن أحكم على شخص دون يقين كامل. اليقين يأتي من رؤية الأدلة بعينيك، وهذا ما أبحث عنه الآن. نحن نحاول مراجعة الأمور لكشف الحقيقة. قد نصل إلى أدلة ووثائق يومًا ما، وإذا وجدنا الشخص المسؤول،سنتصرف بناءً على ذلك.”
السؤال: ما هي الآليات التي تتبعها الآن للكشف عن الواشي أو الحصول على أدلة تدعم موقفك؟
رغيد الططري: نحن نحاول بقدر الإمكان مراجعة كل شيء متعلق بالقضية. قد نصل يومًا ما إلى وثائق أو أدلة تُثبت الحقيقة. الأمر ليس سهلاً، لكن بمجرد أن نكشف شخصاً، يقودنا ذلك عادةً إلى آخر. المسألة تعتمد على الصبر والمراجعة الدقيقة، ونحن ملتزمون بالوصول إلى الحقيقة.
السؤال: كيف تمكنت من التخطيط للذهاب إلى الأردن وأنت تحت المراقبة؟ وما هي التحديات التي واجهتها؟
رغيد الططري:كنت قد خططت بشكل دقيق حتى يبدو الأمر وكأنني ذاهب في رحلة قصيرة ليومين وسأعود. سربت هذه المعلومة عمدًا ليطمئنوا. غادرت ولكنني لم أعد في الوقت الذي توقعوه.
لا أعرف كيف كانت تصل المعلومات للمخابرات عني، لكني أعلم أن هناك قنوات تسرب لهم التفاصيل. في ذلك الوقت، كنت قد سُرحت من الخدمة العسكرية، ومع ذلك كنت تحت المراقبة المستمرة.
السؤال: بعد ذهابك إلى الأردن، كيف كان رد فعل النظام؟ وهل تعرضت عائلتك للمضايقات؟
رغيد الططري: ربطوا موضوعي مع الطيارين مأمون نقار وعبد العزيز عبد، الذين رفضوا تنفيذ أوامر النظام. النظام اعتقل عائلاتهم بالكامل، لكنه لم يعتقل أهلي مباشرة. بدلاً من ذلك، مارسوا عليهم مضايقات يومية.
كان والدي يُستدعى إلى فرع فلسطين من الساعة الثامنة صباحًا حتى الثانية ظهرًا، فقط ليُطلب منه العودة في اليوم التالي. ظل الوضع هكذا لأشهر.
المنزل الذي كنا نسكن فيه كان على مستوى الأرض، وبدأت المخابرات تأتي كل مساء بعد غروب الشمس لتجلس في حديقة المنزل. كانوا يشربون الكحول ويتحدثون بصوت مرتفع لإرهاب عائلتي. طلبوا طعامًا ومشروبات وكأنهم في مطعم. هذا الوضع استمر قرابة سنة كاملة.
السؤال: كيف انتهى بك الأمر إلى تسليم نفسك؟
رغيد الططري: بعد كل المضايقات التي تعرضت لها عائلتي، قررت أن أسلم نفسي لأوقف معاناتهم. كنت أعلم أن النظام لن يتوقف عن الضغط عليهم حتى ينال مني.
السؤال: متى تم اعتقالك رسميًا؟
رغيد الططري: تم اعتقالي في 24 ديسمبر 1981. بعد تسليمي نفسي، بدأ التحقيق معي في المخابرات الخارجية. كان التحقيق الأولي مليئًا بالضغوط النفسية، واستمر لفترة طويلة. لاحقًا، تم نقلي إلى فرع أمن الدولة في كفرسوسة.
في كفرسوسة، لم يكن التعذيب بنفس القسوة، لكنه كان يعتمد على التهديد والضغط النفسي لتثبيت التهم. إذا حاولت التهرب أو تغيير الموضوع أثناء الاستجواب، كانوا يلجؤون إلى العنف.
قضيت ثلاث سنوات في كفرسوسة، وبعدها تم عرضي على المحكمة الميدانية، التي كانت مجرد شكلية. لم تكن هذه المحكمة محاكمة حقيقية. القاضي كان ضابطًا أمنيًا يجلس مع كاتب بجانبه، وكان يكتب الأحكام بناءً على تقارير ملفقة دون أن يمنحنا فرصة للدفاع عن أنفسنا.
السؤال: كيف كان التحقيق معك؟ وما نوع المعلومات التي كان المحققون يحاولون الحصول عليها؟
رغيد الططري: المحققون كانوا يعرفون عن علاقتي بمحمد سجري، وكانوا يريدون معرفة المزيد عن الأشخاص الآخرين المتورطين معنا. كتبوا تقارير ضدي وضد محمد، وحاولوا عبر التعذيب أن يدفعوني للاعتراف على آخرين.
كان تركيزهم الأساسي هو كشف كل من يعارض النظام. تعرضت لتعذيب شديد وصل إلى حد فقداني للوعي. نُقلت إلى المستشفى لشهرين بعد أن كدت أفقد حياتي بسبب التعذيب.
كان التعذيب قاسيًا للغاية. وصل الأمر إلى أنني فقدت الوعي بسبب شدته. المحققون كانوا يبحثون عن معلومات إضافية لم يكن لديهم دليل عليها، وأعتقد أن التعذيب كان مجرد وسيلة لإجبارنا على الاعتراف بأي شيء يُرضيهم.
في النهاية، جمعتني المخابرات بمحمد سجري وأجبروني على التحدث أمامه، لكنني بقيت صامدًا ورفضت الاعتراف.
تنويه: محمد سجري هو طيار سوري سابق في سلاح الجو، زامل رغيد الططري وكان صديقا مقربا له. اعتقل السجري لأكثر من عشر سنوات تهمة عدم تنفيذ الأوامر أيضا، ثم أفرج عنه . وقد تمكن من الهجرة إلى كندا في وقت لاحق.
السؤال: كيف تصف موقفك من تنفيذ المهام العسكرية التي تتعارض مع المبادئ الإنسانية؟
رغيد الططري: الطيار المرتزق يعمل من أجل المال فقط، لا يهمه الهدف أو تأثير المهمة التي ينفذها. قد يحصل على 10,000 دولار مقابل تنفيذ مهمة، وهذا بالنسبة له كافٍ ليقوم بها دون أي اعتبار.
أما نحن، فلسنا طيارين مرتزقة. حب الطيران والعمل العسكري بالنسبة لنا وسيلة للعيش وليس غاية بحد ذاتها. الراتب لا يعني أن نتخلى عن مبادئنا الإنسانية.
شخصيًا، لن أقبل أبدًا تنفيذ مهمة تتعارض مع مبادئي، حتى لو طُلب مني قصف بيت مدنيين، سواء الآن أو في المستقبل. لا أستطيع أن أضرب من لا يحمل سلاحًا ضدي. الإنسان الذي لا تعرف ظروفه أو حياته لا يجب أن يكون هدفًا.
السؤال: هل شعرت يومًا بالندم على قرارك برفض تنفيذ أوامر القصف؟
رغيد الططري: هذا القرار لم يكن اختيارًا بل كان واجبًا. لا يمكن للمرء أن يندم على أداء واجبه، تمامًا كما لا يمكن أن يندم على تربية أبنائه.
لو عاد الزمن ألف مرة، كنت سأفعل الشيء نفسه. هذا موقف نابع من الضمير الإنساني، وليس شيئًا يمكن المساومة عليه أو تغييره.
السؤال: كيف كانت لحظات ما قبل خروجك من السجن؟
رغيد الططري: عندما تم إطلاق سراحي، كنت في سجن طرطوس، تحديدًا في جناح “الإرهاب” الذي كان مخصصًا للسجناء السياسيين فقط. هذا الجناح كان مختلفًا؛ لم يُحتجز فيه سجناء بجرائم القتل أو السرقة.
في الأيام الأخيرة قبل سقوط النظام، بدأوا بإدخال سجناء من مرتكبي الجرائم العنيفة، وبدأنا نسمع الأخبار مبكرًا عن تطورات الأوضاع. كنا نعرف بسقوط النظام قبل أن يدرك البقية ذلك.
السؤال: كيف بدأت تسمعون أخبار سقوط النظام أثناء وجودكم في السجن؟
رغيد الططري: الأخبار بدأت تصلنا حوالي الساعة الواحدة والنصف أو الثانية ليلًا. كان السجناء الذين لديهم أخوة أو أقارب في المؤسسات الحكومية أو الأمنية يتحدثون عبر الهواتف الموجودة في غرفهم.
أحدهم قال إن الرئيس هرب، وإنهم في الجيش أو الأجهزة الأمنية بدأوا بارتداء الملابس المدنية للهروب. هذه كانت البداية، وبدأت الأنباء تنتشر شيئًا فشيئًا بيننا.
السؤال: كيف كانت لحظات سقوط النظام بالنسبة لكم أثناء وجودكم في السجن؟
رغيد الططري: عندما بدأ النظام بالسقوط، لم يكن الأمر قد أُعلن رسميًا بعد. لكن بالنسبة لي، كنت أعلم أن النظام يتهاوى منذ أشهر.
في البداية، ساد الخوف والارتباك بين السجناء والحراس على حد سواء. البعض كانوا خائفين من المسلحين الذين قد يهاجمونهم، خاصةً بسبب الخلافات الطائفية أو الأفكار التي كانوا يحملونها.
العقيد الأيسر، مدير السجن، أصدر أوامره بفتح الأبواب وترك السجناء يخرجون ويدبرون أمورهم بأنفسهم. عندها، خرجت حوالي الساعة الخامسة والربع صباحًا، واتجهت مباشرة إلى منزل صديقي جوزيف سلوم في منطقة صافيتا.
السؤال: ماذا حدث بعد خروجك من السجن؟
رغيد الططري: بعد خروجي من السجن، أخذت أمتعتي وتوجهت إلى منزل صديقي جوزيف سلوم. كنا ننتظر ابنه ليأخذنا بالسيارة.
فجأة، سمعت صوتًا نسائيًا خلفي يقول: “الحمد لله على السلامة.” عندما التفت، كانت المحامية خديجة منصور وزوجها. خديجة سألتني عن أمتعتي، ووضعتها في سيارتها وأخذتني إلى منزلها.
بعد فترة قصيرة، جاء صديقي وأخي، سهيل بشارة أبو سعد الله، الذي كان يعتبر أكثر من مجرد صديق بالنسبة لي. عندما لم يجدني في السجن، أخبروه أنني ذهبت مع المحامية خديجة منصور. سهيل كان يحمل المال، ووزع على السجناء الذين خرجوا خمسمئة ألف ليرة لكل شخص، ثم لحقني إلى منزل المحامية.
بعد فترة قصيرة من وصولي إلى منزل المحامية خديجة منصور، جاء صديقي محي الدين إبراهيم (أبو إبراهيم) ولحقني إلى هناك. جلسنا جميعًا في منزل المحامية، شربنا القهوة، وبدأنا نوزع المهام. لاحقًا، تناولت وجبة الإفطار مع أخي وصديقي سهيل بشارة، ثم قضيت الليلة عند محي الدين إبراهيم. بقيت عنده لمدة يومين أو ثلاثة أيام.
السؤال: هل قمت بأي نشاط اجتماعي محدد بعد ذلك؟
رغيد الططري: نعم، أول عمل قمت به بعد خروجي كان عملًا إغاثيًا. أنا وصديقي محي الدين إبراهيم قررنا أن ننقذ عائلة عالقة في النبك. كانت هذه المهمة محفوفة بالمخاطر لأن الأوضاع لم تكن واضحة بعد، ولم يكن أحد يستطيع مساعدتهم.
العائلة كانت مكونة من أطفال ونساء، ولم يكن لديهم وسيلة للعودة إلى صافيتا. أخذنا سيارة صغيرة من نوع كيا ريو، ونحن شخصان فقط، وتمكنا من تحميل العائلة كاملة، التي كانت مكونة من 14 فردًا، معنا. كنا 16 شخصًا في السيارة، ورغم الصعوبات، نجحنا في إيصالهم سالمين إلى صافيتا.
السؤال: متى حدثت هذه المهمة الإغاثية؟
رغيد الططري: كانت هذه المهمة في أول يوم سقوط النظام. ليلة سقوط النظام لم أتمكن من النوم، وبعد إنقاذ العائلة وإعادتهم إلى صافيتا، وصلنا حوالي الساعة الثالثة أو الرابعة فجرًا. لم أستطع النوم إلا بعد ذلك. وعندما وضعت رأسي على الوسادة شعرت أنني غفوت قبل أن يصل رأسي إليها من شدة التعب.
السؤال: بعد يومين من التعافي والنوم، ماذا فكرت أن تفعل؟
رغيد الططري: بعد يومين من الراحة، كنت أفكر في التحرك والبدء بحياتي من جديد. صديقي عبد الله حسين عرض علي أن يأخذني إلى حلب، ولكنني كنت مترددًا. قلت له أن نجتمع أولًا عند جوزيف سلوم، ومن هناك يمكن أن نقرر وجهتنا. ذهبنا بالفعل إلى جوزيف سلوم، لكن الأمور تغيرت بعد تلقيه اتصالًا طارئًا بخصوص عمله. قررت أن أرافقه بسيارتنا لتوصيله بأمان، وعندما وصلنا، استقبلتني صبايا من مركز تجميل تحت البناية بكل لطف.
بعد ذلك، ذهبت إلى بيت عائلة الأدهمة، وهم ليسوا أقل من أهلي الحقيقيين، واستقررت عندهم لفترة.
السؤال: ماذا حدث مع بيت عائلتك؟
رغيد الططري: بيتنا الأصلي في منطقة الأسر الجمهوري اضطر أهلي لبيعه بثمن زهيد بسبب الظروف الصعبة. المكان أصبح وكأنه معسكر، حيث كان يتم تفتيش الداخلين والخارجين بشكل مستمر، ولم يعد صالحًا للسكن.
أما البيت الآخر في هذه الحارة، فقد كانت لي فيه حصة ورثتها عن عائلتي، ولكن الشبيحة والمتنفذين استولوا عليه بطريقة غير قانونية. شخص يدعى هيثم العلي، وهو شريك لماهر الأسد، اشترى أغلب الحارة وحاول السيطرة على الحصة الخاصة بي.
رغيد الططري مع المحامية خديجة نصر منصور
السؤال: كيف تعاملت مع محاولة الاستيلاء على بيتك؟
رغيد الططري: حاولت التفاوض مع هيثم العلي، وطلبت منه أن يشتري حصتي كاملة أو أن يبيع حصته لي، لكنه رفض. كان يحاول الحصول على البيت بأبخس الأثمان، بينما الحصة الخاصة بي تساوي فوق المليار ليرة سورية.
بعد سقوط النظام، قررت التصرف بشكل مباشر. كسرت باب البيت ودخلت، لأكتشف أن الجدار الفاصل بين القسمين قد هُدم. قمت بإخراج أغراضه من البيت، وتركت له فقط بعض الأشياء الرمزية. شعرت أن هذا أقل ما يمكنني فعله لاستعادة حقي بعد سنوات طويلة من الظلم.
السؤال: خلال فترة وجودك في السجن، خاصةً في صيدنايا، حدثت تمردات. كيف كانت الظروف؟ وما الذي جرى خلال هذه الأحداث؟
رغيد الططري: في سجن صيدنايا، وقعت حادثتان كبيرتان من التمرد خلال عام 2008، كانت الأولى بتاريخ 27 مارس، والثانية بتاريخ 5 يوليو، بفارق زمني بلغ ثلاثة أشهر.
كان التمرد نتيجة طبيعية للقمع والظروف الصعبة التي عاشها السجناء، خاصة أن السيطرة على السجن خلال تلك الفترة كانت بأيدي الجهات الإسلامية بمختلف فصائلها. خلال أول اشتباك، تمكنا من أسر حوالي 1100 عسكري بين ضباط برتبة عقيد ومجندين. لكن حتى نحن لم ندرك حجم الوضع بالكامل. عندما حصلنا على موبايلات وتواصلنا مع إذاعة لندن لإبلاغهم بما يجري، قلنا إننا أسرنا حوالي 400 عسكري، دون أن نعلم أن العدد الحقيقي يتجاوز ذلك بكثير، حيث كان العديد منهم محتجزين في الطوابق العليا والسطح.
في البداية، لم تأخذ الإذاعة الوضع بجدية، وظنوا أن ما يجري مبالغة أو مجرد شائعة، لكن الوضع كان أخطر بكثير. استمرت المفاوضات يومين، وتم إطلاق سراح الضباط أولاً، تلاهم الجنود، وذلك بعد أن توصلنا إلى اتفاق تضمن منع استخدام شعارات دينية أو سياسية من الطرفين. كنا ممنوعين من قول ‘الله أكبر’، وكان العساكر ممنوعين من ترديد ‘بالروح والدم نفديك يا بشار’. هذه الاتفاقات اشعرتنا وكأننا في مفاوضات بين دولتين”.
ويتابع الططري حديثه عن تصعيد السلطات للأحداث قائلاً: “بعد حوالي ستة أشهر من التوتر، قررت السلطات استخدام القوة. استقدموا رافعات كهربائية مزودة بقناصة، وبدأوا في استهدافنا واحداً تلو الآخر. أي شخص يتحرك في الكاريدور كان يُقتل فوراً، مما اضطرنا إلى حفر الجدران بين الغرف للتنقل داخل السجن بأمان. كان الوضع مأساويًا، وفي النهاية بقي حوالي 20-25 سجينًا رفضوا الخروج. دخلت القوات بأسلحتها الثقيلة وقتلتهم جميعًا”.
وعن دوره في هذه الأحداث، يقول الططري: “كنت من بين السجناء الذين رفضوا الخروج، لكن العميد طلعت محفوظ، الذي كان يعرفني من أيام سجني في تدمر ويعرف موهبتى فى الرسم، أصرّ على إدراج اسمي ضمن قائمة الخارجين. لم أرغب بالخروج، لكن وضعي الصحي أجبرني على ذلك. خرجت، لكنني بقيت على تواصل مع ما يجري في الداخل، وكان الوضع بعد خروجي أكثر صعوبة، حيث اشتدت عمليات القنص واستمر الضغط على السجناء”.
ويختتم حديثه قائلاً: “هذه التمردات كانت تعبيراً عن رفض الظلم، لكنها انتهت بطريقة دموية أثّرت بشكل عميق على الجميع داخل السجن”.
السؤال: متى بدأت بالرسم داخل السجن؟
رغيد الططري: في أول 16 سنة من اعتقالي، لم يُسمح لي بالرسم. لكن مع مرور الوقت، بدأوا يسمحون لي بالرسم، خاصة بعد عام 1997، حيث كنت أرسم أحيانًا بتوجيهاتهم.
في البداية، كنت أرسم صوراً للرئيس بناءً على طلبهم، ولكن مع مرور الوقت رفضت ذلك، خاصة بعد عام 2004. كنت أرفض رسم صور بشار الأسد، وأصبحت أرسم ما أراه مناسبًا فقط. حتى إذا طلب مني أحد أفراد عائلته، مثل ابنه حافظ، أن أرسم صورة، كنت أرفض ذلك. الرسم بالنسبة لي كان وسيلة للتعبير عن مبادئي، وليس أداة لخدمة النظام.
السؤال: هل ستعود للرسم؟
رغيد: “بالطبع، سأعود للرسم. الرسم كان وسيلتي للتعبير في السجن، رغم أنني لم أُمنح هذه الحرية منذ البداية. خلال أول 16 عامًا في السجن، كنت معزولًا تمامًا ولم يُسمح لي بالرسم. في عام 1997، بدأوا بالسماح لي بالرسم، لكن لم يكن ذلك لصالحي الشخصي. كنت أُطلب لرسم لوحات للنظام، مثل رسم صور للرئيس في معتقل تدمر.
عندما انتقلت إلى سجن صيدنايا في أوائل الألفينات، بدأت أرفض رسم أي شخصيات اعتبارية، حتى لو طُلب مني رسم الرئيس نفسه. لاحقًا، في 2004-2005، قررت أن أركز على رسم اللوحات التي تعكس معاناة الناس والهمجية التي رأيتها، وبدأت أرسم مشاهد سياسية تحمل رسائل ضد النظام، لكن بشكل غير مباشر.”
السؤال: هل تفكر في إقامة معرض للوحاتك؟
رغيد الططري: نعم، أفكر في إقامة معرض، ولكن ليس الآن. لدي الكثير من اللوحات، وأريد أن أقدمها بشكل يناسب المرحلة القادمة.
السؤال: خلال فترة تنقلك بين السجون، هل كان يُسمح لك بالتواصل مع أهلك؟
رغيد الططري: في السنوات الأولى من اعتقالي، أهلي لم يعرفوا أنني ما زلت على قيد الحياة. أول زيارة جاءتني كانت عام 1997، بعد 16 سنة من الاعتقال. الزيارة كلفت عائلتي مليون ليرة في ذلك الوقت، وهو مبلغ كبير يعادل اليوم حوالي 200 إلى 300 مليون ليرة.
بعد انتقالي إلى سجن صيدنايا، أصبحت الزيارات منتظمة بمعدل زيارة واحدة كل شهر. ثم مع الوقت، صارت هناك زيارات أسبوعية وإمكانية التواصل عبر هاتف أرضي. ولكن في السجون الأخرى، خاصة معتقلات الأفرع الأمنية، لم تكن الزيارات مسموحة.
السؤال: متى وكلت محامياً للدفاع عنك؟
رغيد الططري: أول مرة وكلت فيها محامية كانت في عام 2014، عندما نُقلت إلى السجون المدنية. كانت المحامية جيهان أمين هي أول من مثلني، ثم المحامية خديجة منصور لاحقاً.
عملت المحاميتان بجهد كبير وبإيمان بقضيتي، رغم المضايقات التي تعرضتا لها من قبل النظام، مثل السفر الطويل والمواقف المهينة في التعامل معهن.
السؤال: كيف تعاملت إدارة السجن مع تواصلك مع المحامين؟
رغيد الططري: كان هناك تضييق كبير على المحامين، خاصة المحامية خديجة. مرة، حاول مساعد في السجن الاطلاع على ورقة كنت قد أعطيتها لها، لكنها رفضت بشكل قاطع، وقالت إنها محامية مؤتمنة ولا يمكنها الإفصاح عما تحمله. كانت هذه المواقف تسبب إحراجاً لهم، ولكنها تظهر قوة المحامين الذين وقفوا بجانبي.
السؤال: كيف كانت علاقتك مع السجانين؟
رغيد الططري: في معظم السجون، لم تكن هناك علاقة شخصية مع السجانين، ولكن في سجن طرطوس كان الوضع مختلفاً بعض الشيء. كوني كنت من الأقدم داخل السجن، كان السجناء يلجأون إليّ للحصول على النصائح. كنت أعمل مع اثنين آخرين على إدارة المركز الثقافي، وهذا خلق نوعاً من الاحترام المتبادل بيني وبين بعض السجناء وحتى السجانين.
السؤال: هل كان موعد إخلاء سبيلك مرتبطًا بسقوط النظام؟
رغيد: “نعم، كنت محتجزًا بناءً على تعليمات واضحة بألا يتم الإفراج عني إلا في حالة سقوط النظام. لم يكن لدي إثبات وجود طوال فترة اعتقالي، وهو أمر مخالف حتى لأبسط القوانين. عندما سقط النظام، تمكنت من استرداد بعض حقوقي، مثل الحصول على إثبات وجود وإثبات قضائي لمظلمتي. ما زلت أعمل على جمع الوثائق والأدلة لمحاكمة المسؤولين عن الانتهاكات التي تعرضت لها.”
السؤال: كيف كانت علاقتك مع السجانين؟
رغيد:”علاقتي مع السجانين كانت مقتصرة على الضروريات. لم تكن هناك أي صداقة أو علاقة ودية. لكن خلال وجودي في سجن طرطوس، كنت من المعتقلين القدامى، مما جعل السجناء الجدد يلجؤون إليّ طلبًا للنصيحة أو المساعدة.
كنت أدير المركز الثقافي داخل السجن بالتعاون مع اثنين آخرين، وكنت أقدم ما أستطيع لمساعدتهم في التأقلم النفسي مع ظروف السجن. رغم ذلك، علاقتي بالسجانين ظلت بعيدة عن أي ود، لأنها كانت علاقة قائمة على السلطة والقمع.”
السؤال: كيف تصف السجون التي تنقلت بينها؟
رغيد: “مررت بعدة سجون ومعتقلات خلال فترة اعتقالي الطويلة:
- المخابرات العامة: أمضيت فيها 3 سنوات في ظروف قاسية.
- سجن المزة: قضيت فيه سنة ونصف، حيث كان السجن سيئًا للغاية من حيث التعذيب والمعاملة.
- معتقل تدمر: أمضيت فيه 15 عامًا، وكان الأسوأ من حيث الظروف والتعامل، وكان يطلق عليه ‘معتقل الموت.’
- سجن صيدنايا: أمضيت فيه 10 سنوات، وكانت هناك انتفاضتان شهيرتان في مارس ويوليو 2008، حيث سيطر السجناء على السجن لفترة وجيزة.
- سجن عدرا المدني: بعد اشتعال الثورة في 2011، تم نقلي إلى هذا السجن وقضيت فيه 5 سنوات، وكانت الظروف أقل قسوة مقارنة بالسجون العسكرية.
- سجن السويداء: هنا تمكنت من الحصول على بعض الراحة النسبية، حيث تمكنت من تهريب هاتف محمول، ما ساعدني على توثيق الانتهاكات.”
في الوقت الحالي يعيش رغيد الططري حياة هادئة إلى حد ما وهو لا يزال يتأقلم مع الحياة خارج السجن بعد حوالي نصف عقد قضاها خلف القضبان. ولكنه يبدو رجلا بعزيمة لا تلين. فرغم كل ما مرّ بهإّ لا يخفي نيته مواصلة الكفاح في سبيل سوريا حرة وديمقراطية وعادلة تضم الجميع دون تمييز أو تفرقة.
كما تجمعه اليوم علاقة قوية بمحاميته خديجة منصور التي كانت احد أول الناس الذين استقبلوه حال مغادرته سجن طرطوس. وخديجة هي نائبة الحزب الدستوري السوري «حدْس» الذي أعلن مؤخرا بدء عمله العلني منهيا فترة المنفى الاضطراري مقدما مبادئه مشروعه السياسي على النحو التالي (الديمقراطية، العلمانية، المواطنة، التنمية، السلام)، باعتبارها منظومة بناء الدولة الحديثة.
0 تعليق