جهاد طروادة: خطة المخابرات الإيرانية البديلة بعد انهيار المحور
مع انهيار الأذرع المعروفة للمحور الطائفي الإيراني تحت وطأة إخفاقاته في لبنان وسوريا، فإن تهديدًا أكثر دهاءً يستحق تسليط الضوء عليه في هذه اللحظة الاستثنائية.
ففي الوقت الذي تهيمن مجموعات تابعة للحرس الثوري الإيراني – مثل حزب الله – على العناوين الرئيسية، فإن الجانب الخفي من الاستراتيجية الإيرانية يترصد في الظل إلى حد كبير.
هذه العملية السرية، التي أطلق عليها “جهاد طروادة“، والتي تم تنظيمها بشكل مشترك من قبل فيلق القدس التابع للحرس الثوري ووزارة الاستخبارات الإيرانية، تستغل الجهاديين السنة لخدمة المصالح الإيرانية – أحيانًا عن علم، وغالبًا دون وعي منهم.
من دعم قتلة الرئيس أنور السادات في مصر إلى اختراق صفوف القبائل في جنوب اليمن، يمثل جهاد طروادة جهداً محسوباً لتجنيد التنظيمات الجهادية لخدمة المشروع الإيراني التوسعي، في ظل وجود مقر قيادة تنظيم القاعدة في طهران، بزعامة سيف العدل (محمد صلاح الدين زيدان).
والآن، مع انهيار محورها العلني، تزايد اعتماد إيران على جهاد طروادة، مما يجعل من الأهمية بمكان أكثر من أي وقت مضى الكشف عن هذه الجبهة الخفية في طموحات طهران الإقليمية وفهمها.
فقد رأى الولي الفقيه أن أوجب الواجبات في تلك اللحظة توظيف الأدوات البديلة؛ فما فشلت فيه الميليشيات الشيعية يمكن تحقيقه من خلال جماعات وتنظيمات أخرى غير شيعية طالما أنها تخدم المشروع الإيراني في المنطقة.
الاختراق الاستخباري
تعرضت ميليشيات الحرس الثوري خلال الفترة الماضية لهزائم غير مسبوقة، في ظل القيادة الضعيفة لإسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس الذراع الخارجي للحرس، والذي لم يستطع ملء فراغ سلفه، قاسم سليماني، ذي الشخصية الكاريزمية.
كما ظهرت تقارير عن تعرض مكتب قاآني للاختراق من الموساد الإسرائيلي، مما أضعف موقفه بشدة، وتحدثت تقارير عن احتجازه والتحقيق معه، بسبب ذلك.
وعلى الجانب الآخر، ازدادت قوة وزارة الاستخبارات، وتمت زيادة ميزانيتها 10 أضعاف في عهد وزيرها القوي، إسماعيل خطيب، المدعوم من المرشد الأعلى، والذي لم يستطع رئيس الجمهورية الحالي، مسعود بزشكيان، تغييره، وأعلن أنه سيستمر في منصبه في حكومته الجديدة التي تشكلت منذ بضعة أشهر، لأن تعيينه لا يتم إلا بموافقة المرشد.
ورغم حدوث اخفاقات استخبارية في عهده، إلا أنه استغل ذلك بطريقة عكسية، فعزز مكانة وزارته بحجة احتياجه لدعم كبير لمواجهة هذه التحديات، لذلك تضخم نفوذ الاستخبارات الإيرانية في مقابل تراجع نفوذ الحرس الثوري، وكان لذلك انعكاس على الميدان.
ويبدو أن دور الاختراق الاستخباري سيزيد خلال الفترة المقبلة في مقابل تراجع دور التجنيد الصريح للميليشيات الشيعية، وهو ما سينعكس في زيادة عمليات اختراق التنظيمات المسلحة كالقاعدة وتوظيفها، وهو المشروع الذي أطلقنا عليه مصطلح “جهاد طروادة”.
فوزارة الاستخبارات الإيرانية تعتبر توظيف تنظيم القاعدة أحد أدوات السياسة الخارجية، وقد كشفت تقارير استخبارية غربية عام 2006 أن رئيس الجمهورية الأسبق، أحمدي نجاد، حاول إقناع تنظيم القاعدة في عهد مؤسسه، أسامة بن لادن، بتعيين سيف العدل، المقيم في طهران، في موقع الرجل الثالث داخل التنظيم، وبالفعل أصبح اليوم زعيمًا للتنظيم، بعد رحيل بن لادن وخليفته، أيمن الظواهري.
جهاد طروادة البديل الجاهز
بعدما شهده عام 2024 من فشل ذريع للميليشيات العقائدية الشيعية، ستركز طهران على اختراق الجماعات الإرهابية كداعش والقاعدة، فستزيد أهمية استثمار طهران في التنظيمات الإرهابية غير الشيعية بعد فشل ميليشياتها الطائفية في تثبيت نفوذها خارج المجتمعات الشيعية رغم إنفاق عشرات المليارات من الدولارات على هذا المشروع دون أي فائدة.
فالدرس الذي خرجت به إيران من الحالة السورية هو أهمية غزو أهل السنة من الداخل عبر “جهاد طروادة” لأن أفراد تنظيمات كالقاعدة وداعش يستطيعون الاختباء في النسيج المجتمعي العربي بخلاف مثلا ميليشيات “زينبيون” التي تتكون أساسًا من شيعة منطقة القبائل غرب باكستان، فلا تجمعهم بأهل المنطقة رابطة لغوية ولا مذهبية ولا عرقية بل كانوا يعيشون غرباء عما حولهم لا يعتمدون إلا على سلاحهم فقط.
ولذلك عندما شنت الفصائل السورية هجومها الأخير الذي أسقطت به نظام الأسد، تبخرت كل الميليشيات الشيعية وفرت إلى الخارج لأنها ليس لها جذور أو روابط تربطها بالأرض السورية.
ولم يكن انهيار “المحور الإيراني” ماديًا فقط، بل انهارت مصداقية إيران كقوة مقاومة لإسرائيل لأنها غابت كدولة حين اشتعلت حرب غزة رغم تهديداتها السابقة التي ثبت أنها شعارات فارغة لا يمكن أن يعتمد عليها الفلسطينيون أو يثقوا بها بعدما خانتهم ونكثت بعهد “وحدة الساحات” التي أطلقوا هجوم (طوفان الأقصى) بناءً عليه.
وبالتالي تزداد أهمية “جهاد طروادة” لتعويض النفوذ المفقود الذي كان يعتمد على المتاجرة بالقضية الفلسطينية، ولذلك فإن اختراق إيران لتنظيم القاعدة يمكن أن يمثل أداة لتحقيق ما عجزت عنه الميليشيات الشيعية، لأن القاعدة تحقق لطهران اختراق المجتمعات العربية السنية من الداخل، وتحتمي بحواضن شعبية توفر لها مميزات سهولة التجنيد والتخفي وإيجاد ملاذات آمنة بغض النظر عن الاختلافات المذهبية وقد تناولنا بإسهاب علاقة التخادم بين الحوثيين وفرع تنظيم القاعدة في اليمن في مواجهة العدو المشترك وهو حكومة الشرعية وقبائل الجنوب اليمني.
وهذا هو “جهاد طروادة” الذي يشير إلى اختراق طهران للمجتمعات السنية من خلال التسلل عبر تنظيم القاعدة وغيره، على غرار أسطورة حصان طروادة الإغريقية عندما اخترق المهاجمون مدينة طروادة الحصينة باستخدام حصان خشبي كبير اختبأ داخله جنود العدو.
الشرفاء بالمفهوم الإيراني
تحاول طهران تعزيز أوراق القوة لديها بعدما خسرته مؤخرا، فقد هدد المرشد الإيراني، علي خامنئي، بظهور مقاومة من الشرفاء في سوريا، وهو لا يعني مقاومة شيعية لأنه لم ينجح في صنعها في سوريا عندما كان في قمة سيطرته ونفوذه على مدار سنوات، لكن يقصد دعم أطراف وجماعات لنشر الفوضى بهدف امتلاك أوراق ضغط على النظام السوري الجديد.
وإيران متمرسة في استخدام هذه الأدوات؛ فقد استخدمت تنظيم داعش لإحكام سيطرتها على العراق عسكريًا بحجة مكافحة الخطر الداعشي، وبعد سنوات طويلة من إعلان القضاء عليه ما تزال الهجمات المنسوبة لداعش تشكل المبرر لبقاء ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لطهران؛ إذ ترفض حل نفسها وتواصل عملياتها في المحافظات السنية بحجة مكافحة الإرهاب.
وفي اليمن، تترقب ميليشيات الحوثي عملية وشيكة كبيرة لكسر شوكتها، وفي هذا السياق تزداد أهمية تعزيز التعاون والتخادم مع تنظيم القاعدة في اليمن سواء للتصدي لقبائل الجنوب وقوات الحكومة الشرعية وطعنهم في ظهورهم خدمةً للحوثيين، أو حتى في سياق التحضير لاستمرار امتلاك طهران أوراق اللعبة في اليمن في حال انحسار سيطرة الحوثيين.
وفي الصومال تمثل جماعة الشباب، الفرع المحلي لتنظيم القاعدة نموذجًا آخر لجهاد طروادة؛ فرغم تقوقع الجماعة حتى عن فروع القاعدة الأخرى، تسعى طهران، بطرق غير مباشرة، لتسخيرها لخدمة أهدافها؛ فعندما اغتالت الولايات المتحدة قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الذراع الخارجي للحرس الثوري الإيراني، في يناير 2020، اكتفت طهران برد رمزي بينما أتى الرد الحقيقي من “الشباب الصومالية” التي شنت هجومًا على معسكر سيمبا في كينيا قتلت فيه جنودًا أمريكيين.
واليوم تحاول الأجهزة الإيرانية بشتى الطرق التواصل مع حركة الشباب لإحكام السيطرة على المدخل الجنوبي لمضيق باب المندب من الجانبين، وهو المخطط الذي شرحه مصطفى حامد، مؤرخ القاعدة، وصهر زعيم التنظيم، سيف العدل، على موقعه “مافا الإيراني” من مقره في طهران.
معضلة المشروع الطروادي
من مقره الدائم في طهران، يقود سيف العدل، الزعيم الفعلي للقاعدة، أفرع التنظيم حول العالم، وبالتنسيق مع مضيفيه الإيرانيين، تم نسج علاقة بين فرع القاعدة اليمني وميليشيات الحوثي الموالية لطهران، شملت توفير السلاح والملاذات الآمنة والتخادم الميداني.
ورغم عدم تحقيق نفس النجاح مع فرع القاعدة في الصومال، لا تزال المحاولات في هذا الصدد مع تزايد احتياج الحوثيين لهذه العلاقة بعدما صاروا أنشط ذراع إيرانية في المنطقة وتركزت الأضواء على زعيمهم بعد اغتيال أمين زعيم حزب الله، حسن نصر الله، وإخراج لبنان وسوريا والعراق من ساحة المواجهة.
لكن المعضلة أنه بينما تشتد حاجة الإيرانيين لتسخير تلك التنظيمات والتحالف معها في مواجهة العدو البعيد، تقدم كل النماذج الفاشلة عبر بليغة تحذر من نفس المصير، بينما يقدم نجاح النموذج السوري بعد فك الارتباط بالقاعدة قدوة لفروع التنظيم الأخرى، تدفعها ليس فقط للفكاك من العلاقة مع إيران بل فك الارتباط مع تنظيم القاعدة نفسه والتحلل من علاقة لم تجلب سوى الخراب والدمار.
الخلاصة
بعد فشل الميليشيات الشيعية في تثبيت نفوذها خارج حواضنها المذهبية تزداد أهمية التنظيمات الإرهابية غير الشيعية في الاستراتيجية الإيرانية التوسعية.
فقد تعلمت إيران من الحالة السورية الاعتماد على غزو أهل السنة من الداخل عبر “جهاد طروادة” لأن التنظيمات كالقاعدة وداعش تستطيع الاختباء في النسيج المجتمعي العربي السني بخلاف عناصر الميليشيات الأجنبية الغرباء على المنطقة ولا يستطيعون الاندماج مع سكانها.
ويمثل تنظيم القاعدة أبرز التنظيمات التي تعول طهران على اختراق فروعها لاسيما في اليمن والصومال، في ظل وجود قمرة قيادة التنظيم العالمي داخل الأراضي الإيرانية.
البحر الأحمر في قبضة إيران.. الحوثيون وجماعة الشباب الصومالية في قلب المخطط!
أخبار متعلقة :